قيس بن سعيد وانتصار اللغة العربيّة
الشيخ محمد خير موسى رابطة علماء أهل السنة• أعرابيّ في القمّة العربيّة
في "معجم الأدباء" للحموي قال: تكلَّم أبو جعفر المنصور في مجلسٍ فيه أعرابي؛ فلحن، فصرّ الأعرابي أذنيه ـ يعني: نصبها للاستماع ـ فلحنَ مرّةً أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: أفٍّ لهذا؛ ما هذا؟! ثُم تكلّم فلحنَ الثّالثة، فقال الأعرابي: أشهدُ لقد وُلِّيت هذا الأمرَ بقضاءٍ وقدَرٍ.
هذا الأعرابيّ رأى أنَّ المنصور لم يكن مستحقًّا للحكم لمّا عاين في مجلسه بعض اللحن في لسان المنصور؛ فيا ويح قلبي ما الذي كان هذا الأعرابيّ سيقول لو أنّه حضرَ قمّةً عربيّةً من القمم التي يتبارى فيها الحكّام باستعراض عضلات ألسنتهم المعوجّة؟!
على أننّي موقنٌ بأنَّ هذا الأعرابيّ لو كان موجودًا حين إعلان نتيجة الانتخابات الرّئاسيّة في تونس لرأى اللّغة العربيّة ترقص طربًا مع الجموع التونسيّة التي خرجت إلى الميادين مبتهجةً بفوز قيس بن سعيد بالرّئاسة.
نعم؛ كثيرون لم ينتبهوا لوجودها، لكنَّ اللغة العربيّة تعدّ نفسها من المنتصرين في الانتخابات الرّئاسيّة التونسيّة، ولئن كان فوز قيس بن سعيد بالرّئاسة لطمةً قويّةً على وجه الثّورات المضادّة؛ فهو أيضًا صفعةٌ أشدّ قوّةً على قفا فساد الذّوق اللغوي وتردّي الخطاب العربيّ وتهافت اللسان عند عموم الحكّام العرب.
• تكلّم حتّى أراك
دومًا تعاملَ السّاسة والحكّام العرب مع اللّغة العربيّة بازدواجيّة غريبة ومريبة، فخطابات معلنةٌ عن أهميّة اللغة العربيّة وضرورة تعليمها، ولسانٌ عاجزٌ عن إتمام جملةٍ في خطابٍ أمام الجماهير أو أمام زملاء المهنة في قمم جامعة الدّول العربيّة.
والتّهتُّك اللغويّ في المتحدّث يسقط هيبته أيًّا كان لكنّه يزداد قبحه مع تعاظم المكانة والقدر والمسؤوليّة فكلما كانت المسؤوليّة أكبر كان اللحنُ أقبح، ولذا فاللحنُ أقبحُ ما يكون من حاكمٍ يحكمُ دولةً عربيّة.
وقد قال إسحق بن خلف المعروف بابن الطّبيب:
النَّحْوُ يَبْسُطُ مِنْ لِسَانِ الأَلْكَنِ
وَالمَرْءُ تُعْظِمُهُ إِذَا لَمْ يَلْحَنِ
لَحْنُ الشَّرِيفِ يُزِيلُهُ عَنْ قَدْرِهِ
وَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَاظِ الأَعْيُنِ
فلطالما كان اللّسانُ راسمًا لصورة المتحدّث وكلام المرء معيارًا لتقييمه، وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "أظلّ أهابُ الرّجل حتى يتكلّم فإن تكلّم سقطَ من عيني أو رفعَ نفسَه عندي"، كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: "تكلّم حتّى أراك"؛ فلو أنَّ سقراط سمع خطابات حكّامنا الأجلّاء فرأى العجب العجاب لقال في نفسه: "تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه"
لكنَّ الأمر غدا مختلفًا تمامًا مع قيس بن سعيد، الذي تجري العربيّة الفصيحة على لسانه بطلاقةٍ لا تكلّف فيها، وسلاسةٍ لا تقعُّر في أدائها، فتشعرُ أنَّ العربيّة قريبةٌ محبّبة وأنّ كلَّ الأحاديث عن جفاف الفصحى وقربها من النّفس تغدو هشيما تذروه الرّياح أمام الثّقة التي تتحدّر فيها الكلمات من فمه كالماء الزّلال.
• انتخاب قيس بن سعيد والفرانكفونيّة
وممّا يجدرُ الوقوف عنده مطوّلًا هو أنَّ المرشّحين للرّئاسة في تونس تعاملوا مع الشّعب التّونسي في حملاتهم الانتخابيّة بوصفه شعبًا ممسوخ الهويّة، غارقًا في الفرانكفونية على مستوى الشّخصيّة واللّغة والتّفكير.
فكانوا حريصين ـ بمن فيهم المرشّح الإسلاميّ ـ على عدم الحديث بالفصحى، ومخاطبة الجماهير بالعاميّة الدّارجة، بل كانوا حريصين على تطعيم حديثهم على الدّوام بالجمل والمصطلحات الفرنسيّة لاعتقادهم بأنَّ هذا أكثر تأثيرًا في الجمهور وأدعى لقبوله، لكنَّ قيس بن سعيد كان موقفه مختلفًا فظلّ محافظًا على لسانه العربيّ الفصيح، وخطابه المفعم بالفصاحة المتجنّب للعاميّة المبتعد تمامًا عن الحديث بالفرنسيّة.
وقد أثبت الشّعب التّونسيّ أنّ الصّورة الذّهنيّة المأخوذة عنه من طبقة النّخبة السياسيّة محض وهم، كما أثبت الشّباب التّونسيّ أنّه توّاقٌ إلى هويّته العربيّة والإسلاميّة التي تمثّل اللّغة العربيّة روحها وذلك من خلال التفافه حول قيس بن سعيد بلسانه الفصيح وخطابه البليغ.
إنَّ انتخاب قيس بن سعيد هو انتصارٌ للغة العربيّة لأنّه أثبت أنّ هذه اللّغة ليست غريبة عن تونس وأهلها.
وهو انتصارٌ للغة العربيّة لأنّه ستكون اللّسان الذي يتحدث به رئيس تونس في أعوام قادمة، ممّا سيجعلها قريبةً أكثر من نفوس هذا الشّعب وسيكون ذلك دافعًا إلى مزيدٍ من الإقبال على التّعامل بها ومعها، فإنَّ الجماهير مجبولةٌ على التّأثّر بقادتها في سلوكهم وأفكارهم.
لذا فإنَّ من أوضح مظاهر انتصار اللغة العربيّة في تونس، ومن أعظم وسائل خدمتها في السّنوات القادمة هو أن يكون قيس بن سعيد على سدّة الرّئاسة بلسانه العربيّ المبين.