فزعٌ إلى الصّلاة
الدكتور عادل الحمد رابطة علماء أهل السنةكان من هدي نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، قَالَ حُذَيْفَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى». (رواه أحمد)
والمقصود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أحزنه أمر أو أصابه الهم لجأ إلى الصلاة.
وهذا الفعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو امتثال لأمر الله عز وجل في قوله: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[[البقرة: 153]
ورَبّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل بيته على الفزع إلى الصلاة عند حدوث الحوادث والملمات العظيمة، فعن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ - رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ)). (رواه البخاري)
بل أرشد أمته أن يفزعوا إلى الصلاة عند حدوث الآيات؛ كالكسوف والخسوف، فعن عائشة، رضي الله عنها قالت: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ». (رواه البخاري)
وكذلك في حال تأخر المطر عن وقت نزوله وتأثر الناس بذلك، علمنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نفزع إلى الصلاة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ».(رواه البخاري)
قَالَ أشهب: إذا هبت الريح الشديدة فافزع إلى الصلاة.
وقال ابن التين: استحب بعض العلماء أن يفزع إلى الصلاة عند الزلازل والظلمة.
فهذا كله يدل على أن الصلاة يُفزع لها عند حدوث الحوادث العظيمة، أو التي تشغل قلب الإنسان، وتصيبه بالهم والحزن والخوف.
ولكن لماذا الفزع إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال؟
أولا: لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختارها من دون سائر الأعمال الصالحة، وأوصى بها، وطبقها بنفسه في مثل هذه الحوادث، كما فعل في ليلة الخوف في الخندق، قام يصلي والناس في شدة الخوف كما وصفهم الله عز وجل بقوله: ]إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[[الأحزاب: 10، 11]
ونحن على سنته نسير، وبه نتأسى، فالخير كل الخير في هديه وفي طريقته.
ثانيا: لما في الصلاة من الأسرار والتأثير العظيم على نفسية المسلم، وعلى قلبه وجسده، وعلى رفع ما وقع بالمسلمين من الملمات والحوادث الخاصة والعامة.
قال علي القاري: ((وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ لِلْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، وَشَامِلَةٌ لِلْأَفْعَالِ وَالْحَالَاتِ، وَتُرِيحُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ، وَتُفَرِّجُ مِنْ كُلِّ غَمٍّ، وَلِذَا قَالَ: أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ)).(مرقاة المفاتيح 3/ 1093)
ثالثا: للصلاة أثر على حفظ عقيدة المسلم من العقائد الفاسدة، المرتبطة بالحوادث، فقد كان أهل الجاهلية يعتقدون بأن الكسوف إنما يقع بسبب موت رجل عظيم أو ولادته، ومثل هذه الخرافات وغيرها موجودة في مجتمعات المسلمين وإن اختلفت أشكالها.
يقول الخطابي: ((أمر عند كسوفها أن يُفزع إلى الصلاة والسجود لله الذي يستحق العبادة والسجود دونهما، إبطالا لقول الجهال الذين يعبدونهما، وإفسادا لمذاهبهم في عبادتها، والله أعلم. وقد يحتمل أن يكون المعنى في الأمر بالصلاة عند الكسوف الفزع إلى الله عز وجل، والتضرع له في دفع الضرر والآفات التي تتوهمها الأنفس، وتتحدث بها الخواطر تحقيقا لإضافة الحوادث كلها إلى الله تعالى، ونفيا لها عن الشمس والقمر، وإبطالا لأحكامها)).(أعلام الحديث 1/ 611)
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الصلاة، بسبب انتشار وباء (كورونا) واختلال مفهوم الناس في موضوع العدوى وانتقالها، حتى أثر على معتقداتهم وأدخل الخوف في قلوبهم. فنحن بحاجة إلى تسكين القلوب وزرع الطمأنينة فيها، لترضى بأقدار الله، وتعمل وفق مراد الله، فلابد من الفزع إلى الصلاة.
رابعا: وللصلاة آثار أخرى على حياة المسلم في الملمات قد أجملها ابن القيم رحمه الله فقال:((وَالصَّلَاةُ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ، حَافِظَةٌ لِلصِّحَّةِ، دَافِعَةٌ لِلْأَذَى، مَطْرَدَةٌ لِلْأَدْوَاءِ، مُقَوِّيَةٌ لِلْقَلْبِ، مُبَيِّضَةٌ لِلْوَجْهِ، مُفْرِحَةٌ لِلنَّفْسِ، مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ، مُنَشِّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ،مُمِدَّةٌ لِلْقُوَى، شَارِحَةٌ لِلصَّدْرِ مُغَذِّيَةٌ لِلرُّوحِ، مُنَوِّرَةٌ لِلْقَلْبِ، حَافِظَةٌ لِلنِّعْمَةِ، دَافِعَةٌ لِلنِّقْمَةِ، جَالِبَةٌ لِلْبَرَكَةِ، مُبْعِدَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، مُقَرِّبَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وَقُوَاهُمَا وَدَفْعِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ عَنْهُمَا، وَمَا ابْتُلِيَ رَجُلَانِ بِعَاهَةٍ أَوْ دَاءٍ أَوْ مِحْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ إِلَّا كَانَ حَظُّ الْمُصَلِّي مِنْهُمَا أَقَلَّ، وَعَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ.
وَلِلصَّلَاةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي دَفْعِ شُرُورِ الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُعْطِيَتْ حَقَّهَا مِنَالتَّكْمِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَمَا اسْتُدْفِعَتْ شُرُورُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُهُمَا بِمِثْلِ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى قَدْرِ صِلَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ أَبْوَابُهَا، وَتُقْطَعُ عَنْهُ مِنَ الشُّرُورِ أَسْبَابُهَا، وَتُفِيضُ عَلَيْهِ مَوَادُّ التَّوْفِيقِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَافِيَةُ وَالصِّحَّةُ، وَالْغَنِيمَةُ وَالْغِنَى، وَالرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، وَالْأَفْرَاحُ وَالْمَسَرَّاتُ كُلُّهَا مُحْضَرَةٌ لَدَيْهِ، وَمُسَارِعَةٌ إِلَيْهِ.(زاد المعاد 4/ 304)
((إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر)).(في ظلال القرآن 1/ 142)
وختاما، لا يعرف طعم الصلاة إلا من ذاقها، ومتّع روحه بها، وهي فرصة لنا لنتمتع بالصلاة وبالقرب من الله ومناجاته، خاصة وأن الناس قد حبسوا في بيوتهم، ومنعوا من الخروج، وتوقفت أعمالهم، فليس عندهم ما يشغلهم عند الصلاة، إلا ما أشغلوا به أنفسهم.
أسأل الله أن يجعل قرة أعيننا في الصلاة، والحمد الله رب العالمين.