عالم ”الضفادع”.. كيف اخترق نظام الأسد الثورة السورية؟
استاذ عبيدة عامر رابطة علماء أهل السنةلن يستطيع سكان الغوطة الشرقية الذين عايشوا شهر مارس/آذار من عامنا الحالي أن ينسوا ذلك الشهر مشبهين إياه بـ"القيامة"، فقد نجح الشهر في جعلهم ينسون خمس سنوات من حصار عسكري خانق وقصف يومي بات نعيما مقارنة بجحيم حقيقي وضعتهم به الطائرات الحربية الروسية ليلا، وطائرات النظام السوري نهارا، دون استراحة ولو لساعة واحدة في أقسى الحملات العسكرية منذ اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١، وهو جحيم جوي تم تتويجه بهجوم كيماوي ثانٍ على المركز، كان بمنزلة الضربة القاضية التي أنهت الوجود الثوري في الجَيب الإستراتيجي للمعارضة المسلحة قُرب العاصمة دمشق.
رغم ذلك، فإن فصائل المعارضة السورية قد أتمت استعداداتها العسكرية كما بدا لهذا اليوم، بعشرات آلاف المقاتلين المزودين بالسلاح الثقيل والمحصنين في بيئة طبيعية وبشرية شبه مثالية لحرب استنزاف وعصابات ومدن طويلة، إلا أن تلك الحرب لم تحدث أبدا، إذ بدأ مقاتلو المعارضة بالانسحاب تدريجيا من معاقلهم الثلاثة (حرستا، القطاع الأوسط، دوما) على الترتيب، وكان تفسيرهم البسيط لذلك أنها هزيمة عسكرية مباشرة نتيجة شراسة الحملة واستهداف المدنيين، إلا أن دخان القصف وركام المباني كانا يخفيان قصة أكثر تعقيدا في طبقة مخفية من السياسات المحلية جدا، والحاكمة لما قد يبدو من الخارج عنفا أهوج، أبطالها وضحاياها على الأرجح هم السوريون على سواء.
ففي الثامن من مارس/آذار، وبعد ما يقارب العشرين يوما على بدء الحملة العسكرية الشرسة؛ شهدت مناطق في الغوطة، أهمها "حمورية" و"سقبا" و"كَفربطنا"، وللمرة الأولى رفع علم النظام السوري الذي يقصف هذه المناطق ضمن مسيرات "مؤيدة" تطالب بالمصالحة مع النظام، فيما بدا كمطلب إنساني بريء في ظل استنزاف بشري عنيف تعيشه تلك المناطق، و"غير بريء" بتنظيم وتجهيز سابقين بدوا بالشعارات واللافتات المعدّة سلفا، وهي تجهيزات تحوّلت فيما بعد إلى انشقاقات منظمة عن فصائل المعارضة المسلحة الفاعلة واستهداف لها من داخلها بما يمكن أن يطلق عليه "خلايا نائمة" داخل هذه المناطق.
كان المتصدّرُ بدوره لهذه الخلايا هو الشيخ بسام دفضع (أو ضفدع) أحد الوُجهاء الدينيين لمدينة "كفربطنا"، وهو الرجل الذي يُقال إنه كان قريبا من المكتب الشرعي لـ "فيلق الرحمن" المسيطر على البلدة. حينها بدأ الشيخ بسام بالدعوة لـ "مصالحة بين النظام والمعارضة" بذريعة "حقن الدماء"، وهو مطلب مرفوض شعبيا قبل أن يرفض عسكريا وسياسيا، وفي مواجهة ذلك الرفض الملموس وقتها حشد "بسام" عددا من المقاتلين قائلا إنهم لحمايته، قبل أن يتبين الجميع أنهم نَواة لانشقاق ٣٠٠ مقاتل دفعة واحدة عن "فيلق الرحمن" وتأمين سلاح توارد بلا تأكيد أنه وُفر عن طريق النظام السوري نفسه لاستخدامه بهذه اللحظة تحديدا، ومن ثم الهجوم على البلدة من داخلها لتسقط خلال ساعات، بما كان تمهيدا لسقوط القطاع الأوسط بالكامل.
حال دخول النظام لبلدته "كَفربطنا"، لم يعد "ضفدع" بحاجة إلى مزيد من الاختباء، فظهر على التلفاز الرسمي بجانب جنود النظام السوري مؤكدا أنه "قام بواجبه المطلوب منه"، بقيادته مئات المقاتلين المنشقين عن فصائل المعارضة في الغوطة، وهم المقاتلون الذين باتوا يُعرفون محليا بـ "الضفادع"، ضمن السعي للمصالحة مع نظام الأسد، وصولا إلى مخاطبته بشار الأسد قائلا: "سيدي الرئيس، لكم الفضل في بناء الوطن وحمايتنا، كنا نتوقع أن النصر سيكون حليفكم وأنكم على حق وقد حصل"، معتبرا أن ما جرى في سوريا كان "تحريضا وليس ربيعا عربيا"، وأن الغرض كان "تخريب البلاد العربية"، وأنه رفقة مؤيديه كانوا يوضحون ذلك للناس في الغوطة، أو كما قال: "كنا متمسكين برأينا، والأحداث أثبتت هذه الحقيقة".
نظر كثير من الناشطين السوريين لـ"ضفدع" على أنه سبب سقوط الغوطة كلّها، مذكرين بالوزير "ابن العلقمي" الذي أدخل هولاكو إلى بغداد متسببا بدمارها، في حين رفض آخرون تضخيم دور الشيخ الذي كان من الأساس قريبا من نظام الأسد بترشحه لانتخابات مجلس الشعب السوري عام ٢٠٠٧، ولم يعلن انتسابه للثورة حتى بعد سيطرة فصائل المعارضة على بلدته "كَفربطنا" مختارا الحياد والصمت، إلا أنه ومع اختلاف الآراء، فإن دورا كدور "ضفدع" كُشف عندما مارسه باللحظة والمكان المناسبين عما يمكن تسميته بظاهرة "الضفدعة"، وهي ظاهرة تُعرّف اختراق النظام -أمنيا وعسكريا واجتماعيا- لفصائل ومجتمعات المعارضة السورية عن طريق شخصيات وواجهات وأعيانٍ محلية -دينية في الأغلب-، وقيادتها لخلايا نائمة تتحرك في الوقت المناسب لإمالة كفة الأمور لصالح الأسد، ظاهرة تكشف عن اختراق النظام الكلّي للمجتمع السوري وتحريك شبكاته عن طريق عُقدٍ يمثّلها الفاعلون به، بصمت وهدوء ربما يبدو أكثر فاعلية من حرب ميليشياته الشعواء بالداخل السوري.
"ستاسي" سوريا
تصادف الثاني والعشرون من شهر يونيو/حزيران لعام ٢٠١٢ مع كونه يوم جمعة، الموعد الأسبوعي لاندلاع المظاهرات في المدن والمحافظات السورية الثائرة بحسب بروتوكول "الربيع العربي" السائد وقتها إن جاز القول، ربيع وصل بأحد أكبر تجلياته لمدينة "الباب" في ريف حلب، والتي كانت قد دخلت بكل ما لديها في الثورة السورية بعد شهر واحد تقريبا من اندلاعها، محافظة وملتزمة على ما بدا وكأنه واجباها الأسبوعيان: صلاة الجمعة، ومظاهرة الجمعة.
حينها، فقد النظام صبره على ما يبدو مع قمع شبه يومي لم يعد يجدي للنشاطات الثائرة في المدينة، وبدا أنه سيفقد السيطرة عليها بالكامل، فأدخل في تلك الجمعة قوة من الجيش النظامي لاقتحامها، مرتكبا خطأ للمرة الأولى والأخيرة، فقد كانت هذه الحادثة دافعا أساسيا لتشكيل "كتيبة شهداء الباب"، فصيل معارض أصبح غطاء مسلحا للعمل الثوري في المدينة، وهي كتيبة استطاعت بعد شهر من تلك الحادثة إجبار عناصر المخابرات الجوية والأمن العسكري على الانسحاب إلى مبنى البريد، موقع إحدى المعارك الفاصلة التي شهدت الإسقاط الرمزي لصورة "بشار الأسد"، والإسقاط العملي للنظام بطرده من المدينة، معلنة إياها كـ "مدينة محررة".
حال سقوط البريد، ذهب "عثمان العثمان"، رجل الأعمال المحلي ذو النفوذ الاجتماعي والصيدلي الرائد في المدينة، ليجمع ما حجمه غرفةٌ كاملةٌ من الملفات التي كانت موجودة لدى أجهزة الأمن، والتي كانت محرّمة على السوريين طيلة عقود حكم البعث والنظام السوري، مدفوعا ليعرف كيفية عمل أجهزة الأمن السورية التي اعتقلته مرتين خلال أربعة أشهر سابقة.
وورقة ورقة، حلل "عثمان" هذه الملفات وعرف من الذي أبلغ عنه طيلة حكم البعث، فوجد ملفات مكتوبة بخط اليد لأجهزة أمنية مختلفة، منها الأمن العسكري والمخابرات العامة في دمشق، والأمن السياسي في حلب وطرطوس، لكن المفاجأة كانت هي بعض تفاصيل اللقاءات التي كان يفترض أنها سرية، إذ لم يحضرها سوى خمسة من أصدقائه المقربين الذين بدا أن أحدهم قد وشى بأصدقائه، إضافة إلى صدمته بأن قريبه البعيد "محمد"، والذي كان يعلم اختلافه السياسي والأيديولوجي معه، كان أحد المخبرين الرئيسيين في "الباب" بشكل عام.
كانت تفاصيل البيانات مفاجئة لعثمان على كل حال، لكنه بالطبع، ومثل معظم السوريين، لم يفاجأ بوجود هذه الملفات البالغة من العمر ثلاثة عقود للدولة الأمنية المخترقة للمجتمع السوري بشبكة واسعة وهائلة من المخبرين المحليين، سواء بممارستهم "كتابة التقارير" كوظيفة ثابتة، يستطيعون ممارستها بمجرد حملهم بطاقة انتساب لـ"حزب البعث"، أو كـ"عمل حر" للحصول على بعض الامتيازات السياسية والاقتصادية بإثبات الولاء عن طريق هذه التقارير، في نمط وصفته الأنثروبولوجية الأميركية "ليزا وايدن" بـ "هيمنة غامضة" يمارسها النظام، بينما يحب الكثير من المراقبين والباحثين مقارنتها بنظام الرقابة الشامل الذي مارسته "وزارة أمن الدولة"، الشهيرة بـ"ستاسي"، في ألمانيا الشرقية، أحد أكثر أجهزة الاستخبارات والشرطة السرية قمعا وتأثيرا في العالم، والتي بدت أمام النظام السوري في لحظة ما كأنها ألعاب أطفال لا أكثر.
لم يكن تفوق النظام السوري على ألمانيا الشرقية كمًّا وحسب، ففي الوقت الذي كانت فيه ذروة نجاحات "ستاسي" تجنيدها لما تقارب نسبته مواطن لكل ٦,٥ ألماني شرقي، ما بين مخبر رسمي أو مخبر متعاون، يُعتقد أن كل رجل من ثلاثة رجال في سوريا عمل بشكل ما مع أجهزة الأمن السورية الأربعة الرئيسة المنتشرة بشبكة من عشرات الفروع على طول البلاد وعرضها، أي أكثر من الضعف تقريبا، وهي شبكة شديدة الضخامة "استطاع السوريون رغما عنها النجاح والبدء بثورتهم"، بحسب ما يقول "العثمان" بفخر، إلا أنه لم يكن مدركا للجانب النوعي من هذه الشبكات: شبكات النبلاء والوجهاء.