فتوى مجلس الإفتاء حول حكم أخذ الضرائب التي تفرضها بعض الفصائل
رابطة علماء أهل السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: تفرض بعض الفصائل ضرائب تأخذها على المعابر والحواجز، وقد تجمعها مِن البيوت والمحلات التجارية، بالإضافة إلى أنها تطالب المنظمات الإنسانية بنصيب مما توزعه من معونات مقابل السماح لها بالعمل في مناطق سيطرتها، فما حكم ذلك؟
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فالأصلُ في أخذ الضرائب المنع، فإن عجزت خزينة الدولة عن تحقيق ما لا بدّ منه مِن المصالح العامة، فيجوز للحاكم فرضُ ما تندفع به الحاجة بشروط، أما الفصائل فلا تقوم مقام الحاكم في ذلك، ولا يجوز لها فرض هذه الضرائب منفردة، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أولاً: مِن القواعد المقررة في الشريعة حرمةُ مال المسلم، وأنه لا يجوز أخذُ شيء منه بغير طيبِ نفسِه إلا بموجب شرعي، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النِّسَاء: 29]، وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا يَحِلُّ مالُ امْرئٍ مسلمٍ إلّا بطيبِ نفْسِه» رواه الدارقطني، وقد جاءت النصوص بالوعيد الشديد في ذلك إلى حدِّ أنها أباحت لصاحب المال المعتدى عليه أن يقاتل دون ماله حتى يستشهد، أو يردع المعتدي وإن قتله.
والأصلُ في الضرائب التي تؤخذ مِن عموم الناس المنع، وتدخل في أكل أموال الناس بغير حقّ، وغالباً ما يعتريها الظلم والتعدّي، عن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ صاحبَ الـمَكْس في النار» رواه أحمد وأبو داود، قال المناوي في «فيض القدير»: (أي: مخلداً فيها إن استحلّه؛ لأنه كافر، وإلا فيُعذّب فيها مع عصاة المؤمنين ما شاء الله، ثم يخرج ويدخل الجنة، وقد يُعفى عنه ابتداء)، وقال النووي في «شرح صحيح مسلم»: (المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات؛ وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها).
ولا يدخل في ذلك الوعيد ما يؤخذ مِن الناس مقابل ما يقدّم لهم مِن خدمات خاصة كالكهرباء والماء والهاتف ونحو ذلك…
ثانياً: قرّر أهلُ العلم أنّه عند عدم كفاية خزينة الدولة للقيام بحاجات المسلمين، وتحقيق مصالحهم المعتبرة فإنه يجوز للحاكم أن يفرض على الأغنياء ما يسدُّ تلك الحاجات، وتحقيق هذه المصالح، مستدلين على ذلك بعمومات الأدلة الشرعية، والمقاصد المعتبرة، وعملاً بالقواعد الفقهية: (يُتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، و(تُفوّت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما)، و(تُدرأ عظمى المفسدتين بارتكاب أدناهما).
قال نجم الدين الحنفي في «التحفة»: (فإن لم يكن في بيت المال مالٌ، فلا بأس بأن يتحكم الإمام على أرباب الأموال بقدر ما يتقوى به الذين يخرجون إلى الجهاد)، وقال الشاطبي في «الاعتصام»: (إنا إذا قرّرنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسدّ الثغور، وحماية الـمُلك المتسع الأقطار، وخلا بيتُ المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظِّفَ على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال، إلى أن يظهر مالُ بيتِ المال).
ومع تطور مفهوم الدولة في العصر الحديث، وتغير شكلها ومقوّماتها، واختلاف مواردها الاقتصادية، صارت الضرائب أحدَ أهمِّ روافد الميزانية العامة للدول الحديثة، وعليها تعتمد الخدمات العامة، والمشاريع المهمة، وتعدَّدت مسمياتها التي تجبيها الدول، برزت أهمّية ضبطها بالضوابط الشرعية التي ذكرها أهل العلم، ومنها:
1- حاجةُ الدولة للمال حاجةً حقيقيةً لسدّ احتياجات الأمة، وتحقيق مصالحها، فلا يكون للقيام بالكماليات والترفيه أو ما يخالف الشريعة.
2- عجزُ خزينة الدولة عن تأمين الاحتياج، وعدم كفاية الطرق الأخرى للتمويل.
3- أن تؤخذ الأموال ممن لديه فائضٌ عن حاجاته مِن الأغنياء والمقتدرين، دون العاجزين والمحتاجين التي تضيق أموالهم عن مؤنتهم.
4- أنْ تُقدر الضريبة تقديراً مناسباً بعد دراسة مستفيضة ومشاورة أهل الاختصاص.
5-أن تصرف هذه الأموال في المصارف الشرعية من المصالح العامة دون المصالح الخاصة للمتنفّذين.
وبهذا أفتى العزُّ بن عبد السلام السلطانَ حينما عزم على جمع المال مِن الناس للاستعانة بها في حرب التتار، فأفتاه بالجواز بشرط عجز بيت المال، وأن يتخلّى السلطان والجند عن البذخ والتصرف في المال العام بغير حقّ. ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية».
ثالثاً: قرّر أهلُ العلم أنه إذا خَلا مكانٌ أو زمانٌ مِن الحاكم المسلم فإنه يجب على أهلِ الحلِّ والعقد مِن العلماء والوجهاء وأهل الرأي أنْ يقيموا مَن يتولى أمر الناس.
وقد قرَّر أبو المعالي الجويني نقلاً عن بعض أهل العلم في «غياث الأمم» أنه: (لو خلا الزمانُ عن السّلطانِ فحقٌّ على قُطّان كلِّ بلدة، وسكانِ كلِّ قريةٍ، أنْ يقدّموا مِن ذوي الأحلام والنُّهى، وذوي العقول والحِجا مَن يلتزمون امتثالَ إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، تردّدوا عند إلمام المهمات، وتبلّدوا عند إظلال الواقعات).
والفصائلُ في سورية ليس لها مِن التمكين ما يتحقّق به مفهوم الدولة، ولا الحاكم الممكَّن؛ بل إنها تتنازع الحكم والنفوذ مع غيرها مِن الفصائل، ويشاركها في القيام بشؤون الناس جهاتٌ أخرى عديدة، فلا يحقّ لها أن تنزل نفسَها منزلة الحاكم الشرعي في فرض الضرائب.
كما أنَّ واقع الفصائل التي تجبي هذه الأموال، وكيفية تصرفها بها تثبت التجاوزات في هذا الجانب مِن إيقاع الظلم والعنَت بالناس، والأخذ بالابتزاز وقوة السلاح، وصرفها في مصالح الفصيل ممّا يؤكد أهمية إغلاق هذا الباب.
وعليه:فليس للفصائل أن تستأثر بإقرار الضرائب أو صرفها، بل يجب أن يصدر ذلك عن مؤسسة تجتمع عليها الفصائل، والمؤسسات المدنية والقضائية، التي يلتف حولها عموم الناس ليصدر عنها ما يناسب الحال، وحينها تقوم بمجموعها مقام الحاكم في النظر في المصالح العامة، ومنها تنظيم أخذ الضرائب وصرفها بالعدل في مصارفها الشرعية بالضوابط المعتبرة.
رابعاً: الخدمات التي تُقدم في المناطق المحررة:
– إذا لم تتكلّف عليه الفصائل سواء كان مِن تقديم منظمات أخرى، أو يأتي من مناطق النظام دون رسوم؛ فلا يجوز أن تأخذ عليه الفصائل شيئاً.
– وأمّا ما يترتب عليه كلفةٌ مِن قبيل الخدمات الخاصة كالهاتف والكهرباء والمياه، فلا يجوز أن يؤخذ مِن الناس أكثر مِن التكاليف أو الرسوم الفعلية لتلك الخدمات.
– وما كان مِن قبيل الخدمات العامة فهي داخلة فيما سبق بيانه وتوضيحُه في الفقرتين (ثانياً)، و(ثالثاً).
خامساً: ما تقوم المنظمات الإنسانية والمؤسسات الدعوية والخيرية من أعمالٍ عظيمةٍ في تحقيق مصالح الناس، وسدِّ احتياجاتهم، يوجب التعاون معها، وتشجيعَها لتأدية دورها، والقيام برسالتها، ولا يجوز وضع العراقيل أو العقبات التي تقلّل مِن فعاليتها، أو التضييق عليها في نشاطها، كفرض الضرائب والرسوم على ما تدخله مِن مواد وتجهيزات فذلك مِن المحرمات الظاهرة؛ ففيه اعتداء على المال المخصَّص للمحتاجين المستحقين للعون والمساعدة، وقد يكون سببٌا لتوقف تلك المؤسسات عن أعمالها أو تقليلها، وهو من أعظم الظلم للمستفيدين من هذه التبرعات، وللقائمين على تلك المؤسسات.
فنوجّه إخواننا في الفصائل ــــــــ وكافة المؤسسات ــــــــ العاملة في المناطق المحرّرة أن يتقوا الله في المسؤوليات التي تناط بهم، وأن يحذروا الظلم والبغي والاعتداء على الناس في دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم؛ لأنّ الظلم سببٌ لغضب الجبار وأليم عقابه، وهو مُؤْذِنٌ بخراب العمران، وتسلّط الأعداء، وتأخّر النصر، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــ والله تعالى أعلم ــــــــ
وقد وقع على الفتوى من أعضاء المجلس السادة العلماء: