تتشابه جميع الأنظمة العربية في كونها تعمل ضد مصالح شعوبها، ولكنها تختلف في كيفية العمل وأساليب السيطرة.
كانت ثورات الربيع العربي مفاجأة للجميع، فقد تبين أن بهذه البقعة البائسة من العالم شباباً يحلمون بمستقبل أفضل لبلادهم، وأنهم قادرون على التغيير، وأنه في لحظة ما التفّت حولهم الجماهير، فتبين أن للناس صوتاً، وأن لهم قدرة على الفعل، فقال الرئيس التونسي السابق بن علي (فهمتكوا)، ولكنه فهم الشعب بعد فوات الأوان، وهرب بن علي.
إلا أن أنظمتنا العربية الحاكمة مثل طائر الفنيق الأسطوري تظنه قد مات واحترق، لكنه ينبعث مرة أخرى من الرماد، فقامت الثورات المضادة بمواجهة ثورات الشعوب، وانتصرت حيناً من الدهر، وعادت الأنظمة الحاكمة مرة أخرى إلى مقاعدها، إما بانقلاب عسكري فج كما حدث في مصر، أو بانقلاب ناعم، وعن طريق صناديق الانتخابات كما هو الحال في تونس.
بص العصفورة!
هناك مثل في مصر يُستخدم في التضليل والنصب، وهو أن شخصاً يريد أن يُلفت انتباه شخص آخر بعيداً عنه، أو أن يشتت انتباهه فيقول الأول: (بص العصفورة)، ويشير بيديه بعيداً فليلتفت الثاني يمنة ويسرة وإلى أعلى وإلى أسفل باحثاً عن تلك العصفورة وفي تلك الثواني المعدودة يقوم الأول باختطاف ما في يد الثاني، أو أنه يتهرب منه، ويختفي من أمامه.
تقوم أنظمتنا الحاكمة دائماً بتطبيق هذا النموذج على شعوبنا الطيبة، فكم من قضايا أثارتها الأنظمة منذ نشأتها على يد الاستعمار؛ لتشغل الشعوب عن القضايا المصيرية، فتارة الحرب بين التقدم والرجعية، وتارة الخوف من الغرب الإمبريالى أو الشرق الشيوعي، وتارة الحرب مع إسرائيل من أجل تحرير فلسطين، وفي النهاية نكتشف أن أنظمتنا آخر من يفكر في قضايا الرجعية والتقدمية، وأنهم مجرد عملاء للشرق أو للغرب، وأنهم أكبر أصدقاء لإسرائيل.
والمعضلة الكبرى التي واجهت أشخاص الأنظمة الحاكمة الذين اعتلوا مقاعد أساتذتهم السابقين بعد ثورات الربيع العربي هي أن الشعوب اختلفت بعد الثورات في وعيها، وفي طريقة تعاطيها مع الأنظمة، فكان لا بد من اتباع أساليب جديدة في السيطرة والتحكم بالشعوب.
ففي مصر على سبيل المثال لا يوجد مجال عام سياسي وتزداد سيطرة المؤسسة العسكرية على المجال الاقتصادي، التي حولت قيادات الجيش إلى جنرالات بيزنس، الوطن بالنسبة لهم (سبوبة رزق)، والشعب عبء يُفضل التخلص من مسؤوليته، وخطا النظام العسكري بخطى واسعة في التغييرات النيوليبرالية في الاقتصاد.
كل ذلك لم يكن ليمر بسلام بدون أن يفتعل النظام حرباً على وهم يسمى الإرهاب، فلا يعلو صوت فوق صوت المعركة، ولا يُسأل أحد أو يُحاسب عن إهدار المليارات في مشاريع وهمية، أو عن انهيار العملة المحلية، ولا بيع أراض وثروات الشعب، فالدولة مشغولة بالحرب على الإرهاب الذي كان مُحتملاً في بداية الانقلاب ثم صار غير مُتحمّل الآن.
وتأتي تونس، ذلك البلد الرائع الجميل والشعب المثقف الذي بدأ شرارة الثورات العربية، إلا أنه وفي سياق لا داعي لسرده عاد النظام القديم من جديد، عاد بفساده ورجاله ومحسوبياته وتوزيعه الجائر للثروة.
ولأن الفساد قاسم مشترك بين كل الأنظمة الحاكمة في بلادنا، لا يمكن التخلص منه إلا بالتخلص من الأنظمة ذاتها بشخوصها ومؤسساتها، إلا أن ظهور أثر هذا الفساد التدميري على الدولة يختلف على حسب موارد كل دولة، فالفساد في الخليج لا يؤثر بحال كبير على الدولة والمواطنين؛ لأن صنبور البترول ما زالت يتدفق بغزارة (والتلّ لن يختل)؛ لأنه لا زال كبيراً، ولكن لأن تونس ذات موارد محدودة فتلّها صغير وكلما تم النهب منه فإنه حتماً سيختل.
ولا أخفي إعجابي بالرئيس التونسي (السبسي)، والذي كان من أعمدة نظام بن علي فهو سياسي محنك ويعرف كيف يخرج من أزماته.
فالحراك والاضطرابات في الجنوب تتزايد بعد تهميش الناس هناك وعدم التفات الدولة لمطالبهم، مما اضطره إلى استخدام الجيش للسيطرة على الأوضاع، والضغط على الموازنة العامة للدولة أصبح لا يُطاق حتى صرح وزير المالية بالإنابة في البرلمان التونسي عن احتمال عجز الدولة عن دفع مرتبات الموظفين، وبالرغم من أن الرجل تجاوز التسعين ربيعاً فإنه يطمح إلى أن يُرشح نفسه مرة أخرى للرئاسة.
فقل لي بربك بعد هذا الفشل السياسي والاقتصادي: كيف يخرج من أزماته الطاحنة تلك؟
قنبلة الدخان
قام الرئيس السبسي المحنك والمخضرم بالخروج من جميع أزماته بضربة واحدة، لقد فهم الرجل خريطة مجتمعه وعرف كيف يجر الجميع سواء مؤيدون أو معارضون إلى الخانة التي يريدهم هو فيها، وهل هناك أكثر إثارة من إقامة السيرك بين الإسلاميين والعلمانيين، وهل هناك أكثر قضية تثير الاهتمام، مثل الهجوم على الثوابت الدينية.
بل ومن إبداع الرجل في فكرته أنها لم تقتصر على تونس، بل امتد السجال والنقاش بامتداد الوطن العربي، وقد أقامت النخبة المتطرفة من العلمانيين العرب (سيركهم)، واستعرض مهرجوهم عضلاتهم الكلامية في الهجوم على الإسلام وثوابته وادعاء مظلومية المرأة في إطار الشرائع الإسلامية، ولكن نفس هؤلاء المهرجين لم تتحرك عضلة اللسان فيهم بما يجرح مشاعر الحكام، ولم يطالب واحد منهم بالمساواة في توزيع ثروات البلاد، كما يطالب بالمساواة (جهلاً بالشرع وأحكامه) في المواريث.
وبالرغم من معلومية ( السبسى) أن مقترحه لن يُكتب له النجاح والتطبيق، وذلك لأن الكتلة الكبرى من البرلمان من نواب حزب النهضة الإسلامي، والذين إن سمحوا بتمرير هذا المقترح تشريعياً، فإنهم بذلك يذبحون أنفسهم بأيديهم وينتحرون سياسياً للأبد، ولكنه بالرغم من ذلك يُظهر نفسه للنخبة العلمانية المتنفذة في تونس، ويرسل رسالة للغرب أيضاً بأنه وبالرغم من تخطيه التسعين خريفاً، إلا أنه قادر على حمل لواء التقدمية الليبرالية ضد ما يخص الدين والمتدينين فقط.
وإنني أتخيل الرئيس (السبسي) يفرك يديه ويبتسم جزلاً، وهو يشاهد الجميع وقد انشغل عن قضايا الاقتصاد والسياسة والتوزيع العادل للثروات، وأخذوا يتلفتون ليشاهدوا تلك العصفورة التي شغلت الكثير من الشعوب عن قضاياها المصيرية.