الجمعة 22 نوفمبر 2024 04:49 صـ 20 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    شمول العلم وتنوعه في القرآن الكريم -2-

    رابطة علماء أهل السنة

    في كثير من الآيات يأتي العلم فيها بمعنى المعرفة الواعية، والإدراك الراشد للأُمور، فهو ضدّ الجهل والغباء بصفة

    عامة، لا بمعنى تحصيل علم مُعيَّن من علوم الدين أو الدنيا، وهذا في الحقيقة أكثر ما جاء في القرآن بصيغة

    "يعلمون" أو "تعلمون" مثبتة أو منفية.  خذ مثلاً قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ

    الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {الأعراف:32}. 

     

      فالذين يعلمون تفصيل الآيات هنا: هم أُولو المعرفة الراشدة، الذين يميِّزون بين ما يُعلم بطريق الحسّ، وما يُعلم

    بطريق العقل، وما يُعلم بطريق الشرع، فيأخذون كل علم من طريقه المخصوص به، وهم هنا يعلمون أنَّ ما حرَّمه الله

    على عباده لا يُعرف إلا من طريق الوحي، فلا يفترون على الله الكذبَ ويقولون: هذا حلال وهذا حرام، بغير برهان من

    الله.   وقد جاءت هذه الآية في سياق نعي القرآن على أهل الجاهليَّة دعاواهم على الله بغير الحق أنه أمر بكذا أو

    حرَّم كذا من غير سلطان أتاهم، فقبل ذلك بآيات قال تعالى:[وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا

    قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:28}.   وفي سورة الأنعام مناقشة تفصيليَّة

    للذين حرَّموا أنواعًا من الأنعام بغير برهان من الله، ومن ذلك قوله سبحانه:[وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ

    آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى

    عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ(144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى

    طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ

    وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(145) ]. {الأنعام}.    ومثل ذلك قوله تعالى بعد ذكر بعض أحكام الأسرة: [وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ

    يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {البقرة:230}.   فالمراد هنا: أنهم يعلمون بما لديهم من فقه ورُشد: أنَّ الله لا يشرع إلا ما فيه

    الخير والصلاح لهم. فهم أهل علمٍ ووعيٍ لا أهل جهل وبلادة.    ومثله قوله تعالى:[وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا

    دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {الأنعام:105}    فليس المراد هنا: أنهم يعلمون علمًا مُعيَّنًا من علوم النقل أو العقل،

    بل المراد أنهم ليسوا من أهل الجهل والغباء. 

      وهذا ما نجده أيضًا في حالات نفي العلم، كما في قوله تعالى:[وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى

    يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] {التوبة:6}.   فليس المقصود نفيَ علمٍ معيَّن عنهم من

    علوم الشرع أو الكون، بل المقصود نفي العلم من حيث هو، أي أنهم ليس بأهل علم ومعرفة.   ونحوه قوله تعالى:

    [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ] {التوبة:87}.   ومثله في سورة أخرى:[كَذَلِكَ يَطْبَعُ

    اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:59}. وقوله:[ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا

    يَعْلَمُونَ] {الجاثية:18}.   فالناظر في هذه الآيات وما شبهها يتبيَّن أنها لا تنفى علمًا معيَّنًا من علوم الدين أو الدنيا،

    إنما تنفي العلم من حيث هو، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يُقام لهم وزن أو يُحسَب لهم حساب، بل هم من

    أهل الجهل الذين لا يعلمون. وكفى بالجهل وصمةً وعارا.   ونحو ذلك قوله تعالى:[ وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

    وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {المنافقون:8} .   فقد يكون المراد نفي العلم عنهم ودمغهم بالجهل المطلق، أو نفي

    العلم بهذه القضية المتحدَّث عنها، فهم لا يعلمون أن العِزَّة لله جميعًا؛ لأنه خالق الخلق، ومالك المُلك، وصاحب الأمر،

    ومَن بيده ملكوت كل شيء وهو يُجير ولا يُجار عليه. وأن العِزَّة لرسوله، فهو الذي أرسله بالهدى ودين الحق، فهو

    يتكلم باسم الله، وينفِّذ أمر الله، ويُبلِّغ رسالة الله، ومعه المؤمنون، فعِزَّتهم من عِزَّة الله،  وحبلهم موصول بحبله،

    وقوَّتهم مستمدَّة من قوَّته، فلا يملك أَحد أن يذل نفوسهم، أو يحني رؤوسهم، وهم منسوبون إلى القَوِىّ العزيز.

    المقال السابق (1) هنا : http://www.rabtasunna.com/2107-t

    القرآن كلام ربي العلم شمول

    مقالات