قد لا نعجب حين نرى ظواهر التطرف والغلو أو ظواهر التمييع والشرعنة في وسط يعج بالنوازل والمشكلات وينتظر من علماء الأمة ومفكريها الحلول لكبرى القضايا التي تهم الشأن العام
قلة قليلة من أصحاب الفكر والفقه يقوم بمهمته
حيث نجد الفقه السياسي وفقه الشأن العام يعاني من غربة عند كثير من نخبنا الشرعية والفكرية لذا تجد الفوضى
والخلط الشديد في موضوعات هي الاكثر أهمية وآثارا في حياة المسلمين وتحديد مصائرهم أفرادا وجماعات
كما لا يخطئ الناظر حين يلاحظ أن هناك فصاماً نكداً بين بعض علماء الشرع والسياسة، أو بتعبير آخر ضعف فقه السياسة الشرعية عند جمهرة كبيرة من علماء الشرع، حتى ممن عرف بالتضلع والتقدم فيه، وقد يكون لذلك جملة من الأسباب نذكر أهمها:
1. الأسباب التاريخية، إذ لا حاجة إلى التأكيد على أن الشرع الحكيم أعطانا منهجاً متكاملا وقيماً شاملة موجهة في مجال الادارة والحكم والسياسة، فالنبي (عليه الصلاة والسلام) كان المبلغ والمعلم والمربي وقائد الجيش ورئيس الدولة، فهو حين كان يقيم الدولة والحدود ويجاهد ويهادن ويحارب ويسالم ويزاول الشورى ويضع المواثيق والمعاهدات فإنه كان يضع الأطر الإسلامية والقواعد العامة للفقه السياسي في الإسلام، ومضى على هذه السنة الخلفاء الراشدون، لكن بعد ذلك في حقبة الملك العضوض والتي واكبتها حقبة الاجتهاد الفقهي والتدوين، فإن ما كتب في مجال الفقه السياسي أو السياسة الشرعية على رغم ثرائه فإنه لم يكن يؤخذ بكليته في مجال الممارسة تبعاً لعدة عوامل، فلو نظرنا إلى مجال التطبيق السلطاني لاجتهادات الفقه السياسي لوجدناها حاضرة وبقوة في مجالات الجهاد والعلاقات الدولية والحسبة والحدود والسياسة الاقتصادية والمالية والقضاء، إلاّ أن الفتور أصاب مجالاً واحداً تجمد الاجتهاد فيه إلاّ في نطاق ضيّق وهو مجال الشرعية للحاكم ومزاولة الشورى في تعيينه، مع أن هذا الجمود لم يكن على وتيرة واحدة، بل كانت هناك ثورات إجتهادية وفقهية كانت تثري الساحة الإسلامية بين آونة وأخرى، تعيد الأمة إلى المنهج الصحيح في اختيار أولي الأمر فيها، كما نلحظ ذلك في كتابات أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني واجتهادات الأئمة الأربعة وصولاً إلى كتابات السرخسي والجويني والغزالي والماوردي وإبن أبي يعلى والعز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
لكن التراجع الكبير إنما حصل مع بداية حقبة العصر الحديث مع الدولة العثمانية، متزامنا مع التراجع الحاصل في مناشط الحياة كافة في الدولة والمجتمع، وكل ذلك كان تراجعاً، ولم يكن توقفاً أو شبه توقف كما حصل بعد سقوط الخلافة وقيام الدولة العلمانية.
2ـ الاجتهاد في الفقه السياسي يحتاج إلى قدر عال من النباهة والفطنة والذكاء لما فيه من تعقيدات وملابسات، وتقدير للمصالح والمفاسد مع ما يرافقها من شوائب وأخلاط وملابسات
إذ لا توجد في الدنيا مفاسد محضة ولا مصالح محضة، والوصول إلى الإفتاء السياسي يتطلب الإلمام بعدة علوم، فمهمة العالم الشرعي المفتي في القضايا السياسية أصعب وأشق بكثير من مهمة السياسي نفسه، إذ أن المفتي السياسي يحتاج إلى معرفة بحيثية النازلة السياسية وتفاصيلها والمصالح والمفاسد والموازنة بينهما ليصل إلى فتواه.
والحقيقة فإن الأمة تعاني من الندرة في وجود مثل هؤلاء العلماء النابهين الأذكياء، كون التخصص الشرعي _ غالباً _ ما يتجه إليه من لا يجد كلية أخرى تقبله وتؤويه من اصحاب المعدلات المتدنية، وممن لا يملكون الطاقات والمؤهلات الذهنية المطلوبة لهذا التخصص العظيم، مع قلة العائد المادي المرجو منه، إلى آخر قائمة الأسباب الأخرى، ولهذا قل عندنا العلماء المبرزون في الفقه عموماً والفقه السياسي خصوصاً.
3ـ المناهج الشرعية المقررة في التعليم الديني قد أقصيت منها مفردات الفقه السياسي في الجهاد والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلاقات الدولية، إذ أن الدولة العلمانية –التي تفصل الدين عن السياسة- قد أبقت على مفردات المناهج الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها مما لا يشكل خطراً على السلطة، أو يصوغ تصوراً لدى الدارسين الشرعيين عن الحكم والإدارة والاقتصاد والقانون الدولي والدستوري، وبذلك تم علمنة المؤسسات الشرعية التعليمية مع علمنة الدولة والمجتمع.
لقد درسنا المناهج الشرعية في الدراسات الاولية والعليا، لكننا لم ندرس حتى ولا من بعيد شيئاً من مفردات الفقه السياسي، ولتتعزّز المشكلة بغياب تدريس هذه العلوم في المساجد أيضاً لينتج لنا بعد ذلك اما متعلم يجنح نحو الغلو والتطرف والتكفير أو نحو التسيب والشرعنة والعيش في الماضي
4ـ إن السياسة الشرعية قائمة على المتغيرات والتكتيكات المصلحية بطبيعة الحال، فإن معرفتها تحتاج إلى فقه عميق للواقع والى الايغال في معرفة الأزمنة والأمكنة والأحداث والأشخاص والعدو والصديق والعواقب والمآلات، مما يتطلب جهداً علمياً إستثنائياً وص
براً فريداً على البحث، ومما يجعل مهمة المفتي السياسي في اعتقادي أصعب وأعقد مهمة في الساحة الاسلامية.
5ـ الممارسات اللا شرعية واللا أخلاقية لكثير من الحكام قديما وحديثا، جعلت مصطلح السياسة يشكل استفزازاً لعقول ونفوس كثير من العلماء، مما أضاع ويضيع فرصاً عظيمة في الإصلاح والتغيير على مستوى الدولة والمجتمع، فأصبح يمدح في القديم من ابتعد عن السلطان والقضاء، وفي زماننا أصبحت عبارة (السياسة خساسة) تجري على ألسنة كثير من علماء الشرع.
وقد تكون السلوكيات غير الشرعية وغير الأخلاقية مبرراً مقبولاً للبعد عن السلطة، إلاّ أنه ينبغي عدم نسيان الأوجه الأخرى للمسألة، وهي أن القرب من السلطة من عالم ثقة ذي افق وعلم، فيه من المصالح ما لا يعلمها إلاّ الله، فالنبي (عليه الصلاة والسلام) كان السياسي والمفتي وكذلك الخلفاء الأربعة ومعاوية (رضي الله عنهم) وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وأسد بن الفرات وأبو يوسف وابن حزم والماوردي والغزالي والقاضي الفاضل وإبن تيمية والعز بن عبد السلام وغيرهم مما كان له رأي واجتهاد في الفقه السياسي، وتأثير على القرار والموقف السياسي وأثر في الحياة العلمية والسياسية على السواء.
فالقضية خاضعة لقانون المصالح والمفاسد في القرب أو البعد من السلطة الحاكمة.