كانت الأمة المسلمة – ولا تزال، وستظل – حقيقة ماثلة، وقوة متماسكة، وكيانا موجودا بين مكونات البشر، قد تضعف هذه الأمة وقد يتعطل سيرها أو تتخلف، بفعل أعدائها حينًا وبفعلها أحيانًا، وقد تمرض وتعتريها المعطلات والكمون والتراجع .. لكنها لا تموت أبدا، ولا تفنى أبدا؛ لأنها الأمة الخاتمة التي ختم الله بها الأمم، كما ختم الرسل بمحمد عليه الصلاة والسلام، وختم الكتب بالقرآن الكريم.
وتعتبر وحدة الأمة من المقاصد العليا للإسلام، والمفاهيم التأسيسية للشريعة الإسلامية؛ حيث شرع الله تعالى من التشريعات ما يعمل على توحيد الأمة وقوتها والإبقاء على الحد الأدنى من هذا الوجود وتلك الوحدة، سواء في العقيدة أم الأخلاق أم الشريعة.
ومن التشريعات التي شرعها الله تعالى لإيجاد وحدة الأمة وحفظها ما جاء في الشريعة وبخاصة العبادات، وعلى وجه أخص الشعائر الكبرى؛ حيث يصلي المسلمون خمس صلوات في اليوم والليلة، بطريقة واحدة، وهيئات معلومة، وفرائض وسنن وآداب متفق عليها، ويصوم المسلمون شهر رمضان، وهو أيام معدودات يبدأ الصيام برؤية الهلال، وينتهي برؤيته، وبينهما الإمساك والإفطار في مواعيد محددة عند الجميع، وصلوات الأعياد والجمع والجماعت ونحو ذلك.
ومن الشعائر الكبرى الأكثر أهمية في تجليات وحدة الأمة هي فريضة الحج التي يقصد المسلمون بالملايين مكانا واحدا يؤدون فيه شعائر مخصوصة في زمان محدد، فلا غرو أن يكون الحج هو المؤتمر الحاشد والجامع للأمة الذي تشهده كل عام، يما يضمن بقاء هذه الأمة واستمرار وحدتها .. وفي فريضة الحج تتجلى مظاهر الوحدة والقوة في مظاهر عديدة، نذكر أبرزها في السطور الآتية:
.
أولا: وحدة الوجهة والمقصد:
الحج كما يعرّفه أهل اللغة هو القصد، وفيه يقصد المسلمون وجه الله تعالى إلى حيث أداء الشعائر في أماكنها المشروعة، راغبين في فضله ورحمته وفي شهود هذا المشهد الجامع والشامل وفي أداء هذه الفريضة التي عبر عنها أبو حامد الغزالي تعبيرا مُعْجبًا حين قال: "الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه: عبادة العمر، وختام الأمر، وتمام الإسلام، وكمال الدين".
فوجهتم من حيث المكان هي بلاد الحرمين، ومقصدهم من حيث القلب والنية هو رضا الله تعالى ومغفرة ما مضى والفوز بالجنة، وقد روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) وفي رواية له أيضًا: (من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) وعند مسلم نحوه.
قال شراح الحديث: الأحاديث الواردة في هذا الباب مستفادة من قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة:197). وقوله في رواية البخاري: (من حج لله) أي: ابتغاء وجه الله، وطلباً لرضاه. والمراد الإخلاص في العمل، بأن لا يكون قصده في الأساس تجارة، أو سياحة، أو شبه ذلك، وأفاد الحديث أن الحج المبرور طريق موصل إلى مرضاة الله، وثمرة ذلك أن يكون العبد من أصحاب الجنة والرضوان، ويكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
.
ثانيا: وحدة المظهر والمخبر:
ومن تجليات مظاهر الوحدة في فريضة الحج هو الوحدة في المظهر والمخبر: ففي المظهر يرتدي الناس ثيابا واحدا، لونه أبيض، لا خيط فيه، ولا اختلاف، وإنما هي الوحدة الكاملة ظاهريا، رداء وإزار؛ حيث يتخلى الجميع عن ثوبه ولباسه الاعتيادي ليتحد المسلمون في مظهرهم أمام ربهم الجليل العظيم.
يقول الأستاذ الحاج أحمد الحبابي في كتابه ((مرونة الإسلام)): في مكة وحول الكعبة في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة وفي عرفة وفي المزدلفة وفي المشعر الحرام وفي منى وفي رمي الحجرات يجتمع المؤمنون على صعيد واحد وفي نظام ولباس واحد وتلبية موحدة.
وفي شعور المؤمنين بأنّ مكة بلد الله الحرام هي للمسلمين جميعهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، كل هذا وغيره يحقق للمؤمنين في موسم الحج وحدة المظهر، وعن ذلك تنشأ الوحدة الروحية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية.
وفي لباس الإحرام المتحد الخالي عن التجمل والتباهي، وفي التشعث والتغبّر يقضي المؤمن على أنانيته والتفاخر والتعالي.
وفي ذلك تذكّر بموقف الإنسان بين يدي الله عز وجل حفاة عراة من كل شيء يوم العرض والحساب ، يقول سبحانه ((يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية…)) الحاقة/18.
أما وحدة المخبر بالإضافة إلى ما سبق فإن المؤمنين مخبرهم واحد، وهو الرغبة في أداء فريضة الحج؛ طلبا لرضا الله والجنة، والدخول في هذه الحالة من التجرد عن متاع الدنيا، والانفكاك عن كل ما سوى الله تعالى، ولا شك أن وحدة المظهر هي ثمرة لوحدة المخبر، فلن يستقيم ظاهر الإنسان إلا إذا استقام باطنه كما لن يستقيم لسانه إلا إذا استقام قلبه؛ ففي سنن البيهقي يروي بسنده إلى فُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ".
.
ثالثا: وحدة المكان والزمان:
ومن تجليات وحدة الأمة في الحج وحدة الزمان والمكان، فأما وحدة الزمان فقد قال الله تعالى عنها: (لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ) [سورة البقرة: 197]. قال صاحب الظلال في تفسير الآية الجزء الأول: "وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً ، وأن وقته أشهر معلومات . . هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة . . وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة ، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة . وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة : مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل . وهو مروي عن إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي وهو مروي عن بن عباس وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد . وهو الأظهر".
أما وحدة المكان فهي معلومة؛ إذ إن شعائر الحج تؤدى في أماكن معلومة، ابتداء من مواقيت الإحرام وهي خمسة أماكن، لا يجوز أن يتجاوزها المسلم إلا بإحرام، كما أنه لا ينبغي له أن يحرم قبلها فيكون متـنطعا مخالفا لسنة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبيان ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود والنسائي.
ومرورا بأماكن أداء الشعائر حيث يوم التروية، ويوم عرفة، والإفاضة من عرفة إلى طواف الإفاضة ورمي الجمرات، وانتهاء بطواف الوداع، والله تعالى قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200). [سورة البقرة].
وبين هذه الأماكن وفيها تلحظ الحشود البشرية هادرة في هذه الأماكن، في السعي وفي الطواف، وفي منى والمزدلفة، وعلى عرفات، هذا اليوم الأكبر الذي تتجلى فيه العبودية بكل معانيها، كما تتجلى فيها الربوبية كذلك بكل معانيها.
.
رابعا: وحدة الشعائر والمشاعر:
وهذه من أعظم تجليات الوحدة في هذه الفريضة العظيمة، وحدة الشعائر والمشاعر، فالشعائر واحدة متوحدة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ولا تختلف باختلاف مكانة الناس ولا جنسياتهم ولا ألوانهم ولا مناصبهم، وإنما هي واحدة للجميع، فالكل أمام الله سواسية في هذه الشعائر، الكل يطوف ويسعى، الكل يقف بعرفات ليُظهر ذله أمام رب العباد وملك الملوك، الكل يفيض من عرفات، الكل يرمي جمرة العقبة الكبرى، والجمرات الأخرى، الكل يطوف طواف الإفاضة، الكل يقول أذكارا واحدة، ويلبي تلبية واحدة: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ".
وأما المشاعر فالأصل أن المسلم يخرج بهذه المشاعر الفياضة، وهذا الشوق الحادي إلى الأراضي المقدسة المفعم بالأمل في رحمة الله، والرجاء في مغفرة، والطمع في جنته ورضوانه، فيتحد المسلمون في شعائرهم ومشاعرهم، وهذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه أمة في وحدتها.
.
خامسا: وحدة النتائج والآثار:
ومن تجليات وحدة الأمة في فريضة الحج هي وحدة نتيجة هذا الحج وآثاره على الفرد والأمة، فالنتيجة هي مغفرة الذنوب إذا أدى المؤمن هذه الفريضة كما ينبغي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه). أخرجه البخاري ومسلم، ووفي لفظ لمسلم: (من أتى هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع كما ولدته أمه). والحديث دليل على فضل الحج وعظيم ثوابه عند الله تعالى ، وأن الحاج يرجع من حجه نقياً من الذنوب ، طاهراً من الأدناس ، كحاله يوم ولدته أمه ، إذا تحقق له وصفان: الأول : قوله : (فلم يَرْفُثْ)، والوصف الثاني : (ولم يَفْسُقْ)، والمعنى : فمن أوجب فيهن الحج على نفسه بأن أحرم به فليحترم ما التزم به من شعائر الله، وَلْيَنْتَهِ عن كل ما ينافي التجردَ لله تعالى وقَصْدَ بيته الحرام ، فلا يرفث ولا يفسق ولا يخاصم أو ينازع في غير فائدة ، لأن ذلك يخرج الحج عن الحكمة منه ، وهي الخشوع لله تعالى والاشتغال بذكره ودعائه.
وأما الآثار فهي حصول الاستقامة لمن حج بهذه الروح وبهذه الكيفية، وعاش روح الحج وأشربت روحه آثارها، ثم يعود ذلك على الأمة بالصلاح العام، والتماسك الظاهر، والوحدة في حدها الأدنى على الأقل التي تتجدد كل عام، وتتجلى مظاهر وحدتها في هذه الشعيرة العظيمة.