بعد عام من الاقتتال الداخليّ.. السودان إلى أين؟
الدكتور عطية عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةانقضى عام كامل منذ بدء الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان، والحصيلة هي ما يزيد على ثلاثة عشر ألفًا من القتلى وثمانية ملايين من النازحين واللاجئين وثمانية عشر مليونًا يواجهون انعدامًا للأمن الغذائيّ، هذا فضلًا عن الانهيار الاقتصادي والتردي الأخلاقي وتعزيز الانقسام الحادّ بين طوائف الشعب وقبائله، مع حشد هائل من أحداث من النهب والسلب والاغتصاب والإبادة والتشريد ستظل محفورة في الذاكرة السودانية إلى أمد بعيد؛ فهل ستنقشع عن وجه السودان هذه الغمامة أم سيشهد مزيدًا من الاقتتال يتحول تدريجيًّا إلى حرب أهلية تمهد لتقسيم حتميّ يتوقعه الكثيرون؟
هل ستنتهي الحرب بتسوية سياسية؟
“بينما تتجه المجموعات السكانية نحو المجاعة، ومع انتشار الكوليرا والحصبة، وبينما يواصل العنف حصد أرواح عدد لا يحصى من الضحايا، ظل العالم صامتا إلى حد كبير، ويجب ألا يستمر هذا الوضع”. هذا ما صرحَتْ به للصحافة سفيرةُ الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومن جهته شدد المبعوث الأميركي للسودان توم بيرييلو على ضرورة استئناف المحادثات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وفي السياق ذاته وافقت الرياض على انضمام مصر والإمارات إلى طاولة المفاوضات بغرض الضغط على الطرفين؛ فهل نأمل أن تصل المفاوضات بالسودان إلى برِّ الأمان؟
يرى بعض المتابعين أنّ هذا ممكن، ولِمَ لا؟ ألم تَنْتَهِ الحربُ بين شمال السودان وجنوبه باتفاق سلام عام 2005م بعد أن استمرت زهاء خمسة عقود منذ انطلاق شرارتها الأولى عام 1973م؟ ويذهب الكثيرون إلى أنّ الحسم العسكريّ هو الأقرب، وأنّ الدوافع التي حركت المجتمع الدوليّ لإنهاء الحرب بين دولة السودان وتمرد جنوب السودان كانت قويّة؛ لرغبة الغرب في إنجاح تجربة انفصال الجنوب بصورة تعزز قيام دولة مستقرة تظلله، أمّا الآن فهذه الدوافع قد توافرت عوامل كثيرة على خفوتها.
هل يختلف هذا الاقتتال عمّا سبقه؟
من المؤكد أنّ هذه الحرب قد توافرت لها عوامل تجعلها مختلفة بصورة جذرية عن الحروب السابقة، وتجعلها مِنْ ثَمَّ أكثر تعقيدًا، فهي -أولًا- لم تنحصر في الطرف الجنوبي أو الغربي كما وقع في المرات السابقة، ولم تدر رحاها بمنأى عن العاصمة وعن قلب البلاد، وهي -ثانيا- فاقت بكثير ما سبقها من الحروب في ممارسة الاستقطاب القبليّ والجهويّ، وهي -ثالثًا- لم تحظ بقدر ولو ضئيل من التوازن في الموقف الإفريقيّ المجاور؛ فالأفارقة الذين انقسموا من قبل إلى داعم للتمرد ومساند للدولة يكادون اليوم يجمعون على دعم ومساندة التمرد، ولا سيما دول الجوار مثل إثيوبيا وكينيا، هذه العوامل تزيد المسألة تعقيدًا وتسحب محاولات الحلول إلى منطقة المصير المشئوم (التقسيم).
هل الجيش قادر على الحسم؟
وعلى الرغم من أنّ المشهد لا يزال معقدًا فإنّ رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان صرَّح يوم الجمعة الماضي بأنه لن يتفاوض مع قوات الدعم السريع ما دامت الحرب مستعرة، وما دام هناك احتلال لمنازل المواطنين ومدن الجنينة ونيالا والضعين والجزيرة، وقال: “إذا رغب المتمردون في التفاوض فعليهم -أولا- إخراج قواتهم من هذه المدن، وتجميعها في مناطق محددة”، وأردف: “الجميع مصمم على القضاء على التمرد”، مؤكدًا أن “جيشًا مسنودًا بالشعب لن ينهزم أبدًا”، وفي كلمة مقتضبة بعد أدائه صلاة العيد ذكر البرهان أن السودان لن يديره إلا الذين صمدوا أمام ظلم وانتهاكات المليشيات، وفي كلمته بأحد مساجد القضارف بشرق البلاد قال رئيس مجلس السيادة إنه لا حوار إلا بعد انتهاء المعركة، وأضاف “عيدنا المقبل إن شاء الله سيكون دون جنجويد أو مرتزقة أو عملاء”، فهل هذه التصريحات -المشعرة بأنّه قد لا يسلس قياده إلى دعوة استمرار التفاوض- تنمّ عن قدرة على الحسم؟ وهل تكفي للقول بأنّ السودان لم يعد بحاجة إلى دهاليز المفاوضات التي قد تفضي إلى حلول تجعل للتمرد نصيبًا في الكعكة السودانية قلّ هذا النصيب أو كثر؟ هذا ما ستكشف عنه الأحداث القادمة.
الورقة الرابحة والكتلة المرجِّحة
يراهن الكثيرون على عنصرين اثنين يرجحان على وجه الحتم استراتيجية الحسم، العنصر الأول هو المقاومة الشعبية للتمرد، وهو عنصر قد توافرت دوافع بروزه؛ بسبب ما ارتكبته قوات التمرد من انتهاكات بحقّ الشعب السودانيّ بكافة أطيافه، ويضاف إلى هذا الدافع -ولاسيما في العاصمة والأقاليم الوسطى- التقدير الشعبيّ الطبيعيّ للجيش، وإذا كانت بوادر الالتحام مع الجيش قد ظهرت آثارها في التصديّ إلى جانب الجيش للتمرد في الجزيرة وغيرها في الفترة الماضية؛ فإنّ المنتظر والمتوقع أكبر بكثير، وبخاصّة مع بروز العنصر الثاني الذي يمكن أن يضبط الإيقاع الشعبيّ بصورة فذّة.
أمّا العنصر الثاني فهو الإسلاميون من خارج الجيش، والحقيقة أنّ هذا العنصر يمكن أن يسهم بشكل كبير -وربما يكون حاسمًا- في إنجاز النصر في هذه المعركة لصالح الجيش وضدّ التمرد، غير أنّ هذا العنصر يجب أن يمارس دوره على نحو رشيد لا يجرّ إلى تداعيات عكسيّة، وفي رأيي أنّه سيكون أكثر سدادًا إذا لم ينفصل عن الحاضنة الشعبية، وإذا سلك سبيله من خلالها، ووقف في ظهرها داعمًا للمقاومة الشعبية، واسترشد بعلماء السودان المنتشرين بكثرة في الداخل والخارج، ونجاح هذه الورقة مرهون بسلامة قصد البرهان وهجره للتخوفات المبالغ فيها من الإسلاميين، ومرهون كذلك -في المقابل- بمدى مرونة ولباقة الإسلاميين وقدرتهم على الموازنة بين المصالح المتعارضة والمفاسد المتقابلة، وعليهم أن يَحْذَروا من الاستدراج إلى غلوّ يجعلهم ورقة مضادة بدلًا من كونهم ورقة داعمة ومرجِّحة لكفة الاستقرار، وسوف يجد البرهان في الإسلاميين الذين عادوا اليوم إلى مواقعهم في الجيش ناصحًا أمينًا وظهيرًا معينًا.