حكم من يصلي العشاء وراء من يصلي التراويح ” صلاة المفترض وراء المتنفل”
رابطة علماء أهل السنة
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله.
لقد كثر السؤال عن هذه المسألة الموسومة ب ( صلاة المفترض وراء المتنفل ) أو ( اختلاف نياية الإمام والمأموم في الصلاة). خاصة كلما جاء شهر رمضان وأقبل الناس على الصلاة في المساجد. وأصبحنا نرى تنابزا وصراعا بين من يزعم أنه يطبق السنّة، وبين من يزعم أنه ينصر المذهب.
فرأيت أن أبسط المسألة بصورة على غير ما هي محررة في بعض كتب الخلاف العالي، بزيادة نظر في التعليل ، ومحاولة الجمع والترجيح، بما يؤلف القلوب ويقربنا إلى علام الغيوب.
========#تصوير المسألة:
لا تخلوا المسألة من أربعة صور :
1_ صلاة متنفل و راء متنفل
2_ صلاة متنفل وراء مفترض
3_ صلاة مفترض و راء مفترض
4_ صلاة مفترض وراء متنفل
========#تحرير محل النزاع :
و حرف المسألة مبني على اختلاف نية الإمام والمأموم، أيا كانت وضعية أحدهما إما إماما أو العكس ، وإما فرضا أو نفلا على ماذكر ٱنفا في الصور الأربعة.
وبهذا الاعتبار نخرج مسألتين من محل النزاع :
أولها: صلاة المتنفل خلف المتنفل، فكلاهما في نفس الدرجة قدرا ونية ، ولا خلاف بين العلماء فيها .
ثانيها: صلاة المتنفل خلف المفترض ، وهذه كذلك لا إشكال ولا نزاع فيها ، وهذا باعتبار أن النفل أضعف من الفرض ،. وقاعدة الاندراج للضعيف تحت القوي .
ويشهد لها قول النبي صلى الله عليه سلم، لما دخل أحد الصحابة متأخرا ، فقال لهم من يتصدق على أخيه.
فما بقي في النزاع إلا صورتين، الثالثة، و الرابعة :
صلاة المفترض خلف المفترض.
و صلاة المفترض خلف المتنفل. وهي محل بحثنا في واقعنا كلما جاء رمضان وأقيمت التراويح.
==========مذاهب الفقهاء في الجملة:
وفي المسألة مذهبان مشهوران سوف أذكر فيه رؤوس أئمة المذاهب دون من سبقهم في ذلك من سلف هذه الأمة.
=======المذهب الأول : الجواز .
وهو الذي انتصر إليه الإمام الشافعي رحمه الله وبعض الحنابلة، في جواز صلاة المفترض خلف المفترض ، و المفترض خلف المتنفل ، وبنوا ذلك على دليلين من السنة النبوية:
#الدليل الاول : وهو في صحيحين ، فيما ثبت عن سيدنا معاذ بن جبل -رضى الله عنه- "أنه كان يصلي العشاء من رسول الله في الجماعة ثم بعد ذلك يخرج معاذ إلى قومه فيصلي بهم الجماعة" فصلاة معاذ الثانية تعتبر نافلة وليست فريضة ومن خلفه يصلون الفريضة، فطالما أن ذلك يجوز، فكذلك يجوز للمتنفل أن يكون إماما للمفترض.
وفي روايةٍ: «كان مُعاذٌ يُصلِّي مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العِشاءَ، ثم يَطلُع إلى قومِه فيُصلِّيها لهم؛ هي له تطوُّعٌ ولهم مكتوبةُ العِشاءِ ».
#الدليل الثاني: فيما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني [القائل عمرو بن سلمة]، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين".(رواه البخاري).
=======وجه الدلالة و الاعتراض عليهما:
#أن النص الأول: دلالته واضحة في كون سيدنا معاذ كان يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم، ثم يذهب ليصلي نفس الفرض بقومه.
فقالوا أن ما صلاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الفرض، و ما صلاه مع قومه في حقه نافلة، و هم صلوا فرضهم وراءه.
وحاول الجمهور رد هذا التوجيه بما يلي:
الاعتراض الأول: بفرض إحتمال أن ما صلاه معاذ خلف رسول الله نافلة في حقه، وما صلاه مع قومه هو فرضه.
الاعتراض الثاني: أن الدليل إذا تطرق له الإحتمال سقط به الإستدلال.
الاعتراض الثالث: ما فرضه السادة الأحناف ، بأن الحديث منسوخ.
وهذا التوجيه ٱراه ضعيفا وهذا لاعتبارات:
#الاعتبار الأول: دعوى أن سيدنا معاذ صلى نفلا خلف رسول الله هذا لا يستقيم مع أفضلية الصلاة خلف رسول الله، وما لها من الفضل والقبول الذي لا يشك فيه أحد.
#قلت: و ظهر لي وجه ٱخر ، ما ثبت في الصحيحين، :"أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "
فكيف تقام الصلاة المكتوبة و هو يصلي نافلة معهم، و هذا الوجه لم أقرأه في كتاب أو سمعته من شيخ ،. وانما هو ما حضرني الٱن ، وربما يكون قد سبقني إليه غيري، ولكن لم أطلع عليه.
#الاعتبار الثاني: دعوى أن الحديث يحتمل أنه صلى الفرض أو النفل،. و هذا الاحتمال ليس ناشئا عن دليل ، بل الأصل بقاء ماكان على ما كان ، ولا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة قوية، ولا وجود لها ، بل القرينة مع الشافعي ومن ذهب مذهبه ، إن صحت كما هي في مشكل الآثار ( فكانت لهم فرضا وفي حقه تطوعا).
#الاعتبار الثالث: أن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل ، ولا دليل ، ونحن نلجأ الى النسخ عند استحالة الجمع، والجمع ممكن ، و إعمال الدليلين أولى من إهمالهما.
#أما النص الثاني:
فقالوا أن تصريح صاحب الحادثة صريح، في إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالصلاة بقومه وهو صغير السن كما صرح هو بعمره، و لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
و في هذا يقول الامام الخطابي:"وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة لقومه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل لأن صلاه الصبي نافلة".(معالم السنن).
و اعترض الجمهور كذلك على هذا النص من وجه:
وهذا بقولهم: أنه يحتمل أنه صلى بهم نافلة، و ليس فرضا .
دفع الاعتراض:
و الظاهر أن هذا الاحتمال بعيد بنص الحديث أنه قال : إذا حضرت الصلاة ، و المقصود بها الفريضة ، وقوله : فليؤذن أحدكم ، و نحن نعلم أنه لا أذان في النافلة.
========خلاصة المذهب الأول:
أنه يجوز عند الشافعية و بعض الحنابلة. الصلاة سواء المفترض وراء المفترض أو المفترض و راء المتنفل، رغم إختلاف النيتين،
غير أن الحنابلة خالفوا الشافعية في صلاة المغرب وراء من يصلي العشاء ، فقالوا انها لا تصح رغم انها صلاة تشترك في الوقت والصفة، حيث كلاهما ليلية، وكلاهما جهرية.
لكن لما افترقتا في العدد ، حيث المغرب ثلاثة والعشاء أربعة ، لم يصح الاقتداء بخلاف الظهر والعصر حيث يشتركان من كل الوجوه ، أربعة ركعات، سرية، ونهارية، فجاز الاقتداء فيهما وإن اختلتفت النية.
============#المذهب الثاني: مذهب الجمهور.
وهو مذهب المالكية و الحنفية وأغلب الحنابلة، في عدم جواز الصلاة لمن اختلفت نيتهما، سواء صلاة فرض خلف فرض أو صلاة فرض خلف نفل.
وبنوا مسألتهم على نص وقاعدة .
#الدليل الأول: وهو ما ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به، فلا تَخْتَلِفُوا عليه، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا، وإذَا قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، فَقُولوا: رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ، وإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ، وأَقِيمُوا الصَّفَّ في الصَّلَاةِ، فإنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِن حُسْنِ الصَّلَاةِ ".(متفق عليه).
#ووجه الدلالة فيه :
أن النبي صلى الله عليه و سلم، أمر بمتابعة الإمام في جميع أعماله في الصلاة، وألا نختلف عليه، فتختلف قلوبنا.
وهذا حتى لا يحدث هرج في الصلاة ، وتكون على نظام واحد، و يكون مقصد الإتباع هو الضامن للمحافظة على وحدة الصف والكلمة والهيئة.
#وجه الاعتراض:
واعترض المخالف من الشافعية ومن نصر مذهبهم: بأن هذا في الأفعال الظاهرة ، دون أعمال القلوب.
قال ابن دقيق العيد:"والحديث محمول في هذا المذهب على الاختلاف في الأفعال الظاهرة".(شرح عمدة الاحكام).
#رد الاعتراض:
قلت : وهذا توجيه حسن لكن لا يسلم من اعتراض، كون جميع الأعمال مقيدة بالنيات والنيات محلها القلب ، بنص الحديث الصحيح : " إنما الأعمال بالنيات ....". فلا يخلو عمل من غير نية ، فالتصرفات هي من تعرب عما في القلوب و منه كانت القاعدة الفقهية الكبرى:" الأمور بمقاصدها ".
#الدليل الثاني: وهي جملة بعض القواعد الفقهية ومنها:
قاعدة: النفل أضعف من الفرض .
وقاعدة : الاندراج
و قاعدة: التابع تابع
فهذه القواعد الثلاث كلها تؤسس على أن الضعيف لا يتقدم على القوي ، و يندرج تحته، و يكون تابعا له، و من ذلك أن النوافل أضعف من الفرائض، وعليه فهي تابعة لها ولا تتقدمها.
ومن ذلك كما الحال عند المالكية في مسألة التيمم، أنه من تيمم لفرض جاز له أن يصلي به ما شاء من النوافل ، والعكس غير صحيح، حيث من تيمم لنافلة لا تجزؤه لصلاة فرض.
وهذه القواعد لها من وجوه الاعتبار مالها، من حيث النظر المنطقي والمقصود الشرعي، والفروع تشهد لذلك.
فإذا كان لا يجوز صلاة فرض خلف فرض آخر كصلاة ظهر وراء من يصلي العصر، وهما في نفس القوة، فإنه من باب أولى عدم صلاة مفترض وراء متنفل وهو أضعف.
=======# الترجيح:
من خلال استعراض النصوص السابقة مع أوجه الدلالة والاعتراضات عليها، ترجح لدي قول الجمهور الذي تزعمه علماء المالكية وهذا للأسباب التالية:
أن حديث معاذ رضي الله عنه ، يمكن حمله :
أولا: أن هذا الأمر كان في بداية الإسلام ، وكما قرر العلامة طاهر بن عاشور في كتابه المقاصد: ( ترك التفريع زمن التشريع ).
و الدليل على أنه كان في مقام التعليم ، شكواه لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، من تطويل معاذ.
ثانيا: أن إمامته كانت مؤقتة لهم لعدم وجود من يؤمهم أو يحسن إمامتهم. والعلة تدور مع الحكم وجودا و عدما.
ثالثا: أنها قضية عين ولا يمكن تعميمها، فهي خلاف الأصل وما جاء على خلاف الأصل لا يصح التوسع فيه.
رابعا: أن حديث عمرو بن سلمة في إمامة قومه ، هي من قبيل إمامة أم ورقة قومها لما صح عنها في مسند أحمد .
حيث إمامتها التي أقرها فيها النبي صلى الله عليه و سلم لقومها لعدم وجود من يصلي بهم من الرجال. فهي حالة استثائية لظرف إستثنائي وليست قاعدة أو حكما مستمرا ، فهي رخصة بخلاف الأصل وعليه لا يتوسع فيها.
ونفس الامر ينسحب على إمامة الصبي حيث صرح أنه لم يكن في القوم من هو أكثر مني قرٱنا، فتقدم بهذا الاعتبار.
و لولا قوله صلى الله عليه و سلم: و ليؤذن أحدكم ، لقلت هي صلاة نافلة.
ولكن هذا النص كذلك يخرج مخرج التعليم، و لا يمكن التعميم في جميع الأحوال ، لاختلاف نية الإمام والمأموم، التي هي ركن من أركان الصلاة، خاصة عند المالكية الذين يرون تقديم رواية الإتمام على القضاء في الأقوال .
حيث جمع المالكية بين الروايتين الاتمام و القضاء، بقولهم : الاتمام في الافعال ، و القضاء في الأقوال .
وبناء على هذا الجمع لو دخل شخص لم يصل العشاء، على قوم يصلون في التراويح ، فإن الركعتين الاوليتين مع الامام هما بالسورة والفاتحة و قد دخل معهم صاحب الفرض من البداية ، فعندما يسلم الامام ، يفارقه صاحب الفرض ليأتي بركعتين، فهل هو في هذه الحالة له حكم المسبوق أم حكم المتم.
إذا قلنا هو في حكم المسبوق فهو يحتاج إلى قضاء ، والقضاء في هذه الحالة بالفاتحة والسورة والجهر . وفي هذه الحالة يصبح قد خرج عن صفة الصلاة للإتيان بأربع ركعات بالفاتحة والسورة.
و إذا قلنا هو في حكم المتم فعليه التسليم بمتابعة الإمام وجوبا، لأنه إنما جعل الإمام ليؤتم به. وبهذا يخالف صفة صلاة.
وعليه فإن أسلم المسالك، أن يصلي لوحده فرضه، ثم يدخل معهم في النوافل .
أو يتسامح معه في مثل هذا الشهر الذي يكثر فيه الزحام و التاخر عن الصلاة، أن ينتظر احد المصلين ويصلي معه جماعة خلافا لمشهور مذهب المالكية، في عدم إحداث جماعة ثانية في مسجد راتب إلا بعد إذن الإمام، فيكون هناك إذن عام ، مراعاة للخلاف ، وخروجا من ترك صفة الصلاة على مذهب الجمهور.
فيتحصل على فضل الجماعة مع شخص أخر ، أولى من الدخول في صلاة و راء متنفل.
ويكون هذا الترجيح مبني على قاعدتي : مراعاة الخلاف: بالنظر إلى قوة دليل الخصم، وقاعدة : الخروج من الخلاف مستحب.
فالوقوع في مكروه إحداث جماعة ثانية، خير من تعمد صلاة بفاتحة وسورة في اربع ركعات .
#هذا ما تيسر جمعه وإعداده ، و على قارئه تصويبه وإنضاجه، هذا إذا كان من أهل النظر والأثر، فإني أقبل أي اعتراض مصحوب بدليل .
======#والخلاصة: أنه لا يجوز صلاة مفترض خلف مفترض ولا مفترض خلف متنفل .
.......هذا و الله أعلم بالصواب .