أنا لا أشعر بلذة الإيمان والإسلام، ففي الصلاة يحلو لي الشرود والتخيل والتفكير في شتى المواضيع الشخصية والعملية والأسرية حتى الجنسية منها، وخارجها أحب سماع الأغاني مثلا، وأخبار الفن، وحتى لو سمعت درسا أو محاضرة دينية أتأثر بها، وأنفعل معها، ولكن بعد الانتهاء منها أعود لسابق عهدي. كما أقضي وقتا طويلا أمام الإنترنت وأتصفح مواقع الجنس والصور الإباحية، وكأن شيئا ما يشدني إليها، ولا أجد شيئا يصرفني عنها سوى انتهاء الدوام مثلا، أو دخول أحد ما لمكتبي. والله إني حاولت وجاهدت ودعوت الله ولم يتغير شيء، فما هو الحل؟ أرجو المساعدة ولو بالعلاج والرقية والطب النفسي. وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الأخ السائل الكريم..
إن لذة الإيمان جنة الدنيا، والوصول إليها وتذوقها لا يأتي بغير ثمن، فكلما ازداد الإيمان زاد إحساس المرء به وتذوق حلاوته، والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وكلما وقع العبد في معصية فإنه ينكت في قلبه نكتة سوداء، ففي الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ". رواه مسلم. فإذا أظلم القلب بالمعصية فإنه لن يجد للطاعة لذة ولا طعماً، ولن تكون على الوجه المطلوب حتى يحقق آثارها ويجني ثمارها، "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" فما تقوم به يا أخي هو سبب ما تشكو منه. فدواؤك بيدك بإذن الله كما أن داءك من فعلك.
يقول أبو العتاهية:
رأيت الذنوب تميت القلوب... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب... وخير لنفسك عصيانها
أخي الكريم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" رواه البخاري ومسلم. ولا شك أن ما تنظر إليه من منكرات له تأثير كبير في إفساد قلبك وظلمته وقسوته، يقول ابن كثير: (النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: "النظر سهام سم إلى القلب"؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك) "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فإذا غض المسلم بصرة زكت نفسه بنص القرآن الكريم حيث قال سبحانه: "ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ" أي: أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، كما قيل: "مَنْ حفظ بصره، أورثه الله نورًا في بصيرته". والمسلم مأمور بتزكية نفسه حيث يقول تعالى: "قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها".
ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه بغض البصر فقال له: "يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ" رواه أبو داود. وسمى النظر إلى المحرمات بزنى العين فقال صلى الله عليه وسلم: "كُتِبَ على ابن آدم حَظّه من الزنى، أدرَكَ ذلك لا محالة. فَزنى العينين: النظر. وزنى اللسان: النطقُ. وزنى الأذنين: الاستماع. وزنى اليدين: البطش. وزنى الرجلين: الخطى. والنفس تمَنّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه" رواه البخاري ومسلم.
أخي الكريم أفكارك وشرودك في صلاتك صورة من واقع حياتك يأتي بها الشيطان إليك، ليصرفك عن الصلاة وخشوعها فتصليها، وربما لم يكتب لك منها شيء لأنك لم تعقل منها شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلا عُشْرُ صَلاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا" رواه أبو داود.
ترى أخي الكريم: أتستحق تلك الأغاني وتلك الأفلام والمشاهد أن تخسر من أجلها لذة الإيمان وحلاوته؟ أتستحق تلك المنكرات أن تخسر بسببها الخشوع في الصلاة وهي الصلة بينك وبين ربك؟
أخي الكريم: بدل أن تشكر نعمة الله عليك في السمع والبصر والصحة والوظيفة فتستخدمها في طاعته تستخدمها في معصية الله سبحانه؟ هل هذا يليق بك؟ وهل ترضى ذلك لنفسك؟
أتشك بأن الله يراك؟
أتجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك فلا تصرفك مراقبته عن تلك المنكرات، ويصرفك دخول البشر عليك؟
بالله عليك أيهم أعظم خشية في قلبك؟ وأيهم أحق أن تخشاه؟
ماذا لو رأى أحد زملائك أو رئيسك في العمل ما تراه على شاشة جهازك؟ كم سيكون حياؤك وخجلك، فاستحي من الله سبحانه فهو أحق أن يستحيا منه. قال صلى الله عليه وسلم: "اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" رواه الترمذي.
ماذا لو وافاك الأجل وغرغرت الروح وبلغت الحلقوم وأنت على هذه الحال: أتراها خاتمة حسنة تلقى الله عليها؟
واعلم أن الوقت الذي تقضيه وأنت في العمل على الإنترنت فيما ليس من مصلحة عملك أنت مسؤول عنه، وما تأخذه من أجر عن ذلك الوقت إذا كنت تقصر في عملك فيكون كسبك فيه الحرام تأكل منه فكيف يستجيب الله لك والنبي صلى الله عليه وسلم "ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟" رواه مسلم.
أخي الكريم تب إلى الله تعالى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وباب التوبة مفتوح، فالله يقول: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم.." فإذا تبت وحققت شروط التوبة من إقلاع عن تلك المعاصي وندم عليها وعزم على عدم العودة إليها فإن لك عند الله عرضا خاصاً بك وبأمثالك "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً" [الفرقان:70] هل تتخيل ذلك الفضل العظيم.
وإذا حدثتك نفسك بشيء من تلك المنكرات فقم وتوضأ وصل ركعتيك، واتل شيئا من القرآن وأكثر من الاستغفار.
وإذا كان عملك يستلزم الجلوس على الإنترنت طويلاً ولا تجد ما تملأ به وقتك فاملأه بسماع مواد صوتية تفيدك في دنياك وآخرتك، استمع للقرآن الكريم، للدروس والمحاضرات والدورات النافعة. فإن مثل هذه المشاهدة لا سيما مع كثرتها واستمرارها تستغرق وقتا كان يمكن استثماره في طاعات كثيرة أو منافع وعلوم دنيوية وحياتية تفيدك وتؤجر عليها، وضياعها دون تلك الثمرات سيكون من الحسرات، وأنت ستسأل عن العمر وعن الشباب وعن تلك النعم فأعد الجواب. وإذا لم تستطع ذلك كله فقم عن الجهاز بعد إنجاز عملك، ولا تجلس على الإنترنت أبدا.
يقول ابن القيم (ومن أطلق لحظاته دامت حسراته، وفي غض البصر عدة منافع أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى، وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
الثاني: أنه يمنع من وصول أثر السم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
الثالث: أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه.
الرابع: أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامس: أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر فقال "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم" ثم قال أثر ذلك "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه. وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
السادس أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، وكان شاه بن شجل الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال لم تخط له فراسة) [الجواب الكافي (ج 1 / ص 125)].
إن الطريق إلى التخلص مما أنت فيه من البلاء يتمثل في الخطوات التالية:
1- استشعر نعمة الله عليك في السمع و البصر، وكلما خطرت ببالك تلك المنكرات استحضر معها قبحها وعقوبتها عند الله تعالى.
2- اجتهد في الطاعات فإن الطاعة تجر أختها. واشتغل بخدمة الإسلام وعون المسلمين بالتعليم والدعوة، واملأ وقتك على الإنترنت بالمشاركة فيما ينفعك كالمنتديات الإسلامية الجادة، وسماع المحاضرات لا سيما الإيمانية، وسماع القرآن.
3- اقرأ القرآن بتدبر وتمعن، وأكثر من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وحاول أن تمر آياته على قلبك قبل لسانك ليتفاعل القلب معها. وليكن حظك من القرآن التلاوة والعمل وليس الحفظ فقط، ليكون القرآن حجة لك لا حجة عليك. احذر مخالفة أمر القرآن فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "والقرآن حجة لك أو عليك" رواه مسلم.
4- أكثر من الدعاء والتضرع إلى الله –لا سيما في أوقات الإجابة- بأن يصرف الله قلبك عن تلك المعاصي والمنكرات، فقلبك بين إصبعين من أصابع الله فاسأل الله تعالى أن يثبت قلبك على طاعته ويصرفه عن معصيته.
5- جالس الأخيار والصالحين، واقرأ سير من مضى منهم لتحذو حذوهم.
وإذا فعلت ذلك كله ولم يجد نفعاً فربما تكون مدمنا على المشاهد الإباحية، فاعرض نفسك على طبيب نفسي موثوق لعل الله أن يعينك على التخلص من هذا البلاء.