فساد دعوى الملاحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مزواجًا لزواجه من تسع نسوة
د. ربيع أحمد
رابطة علماء أهل السنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرضُ الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتَّاكة؛ إذ يفتِك بالإيمان، ويُعْمِي الحواسَّ عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريضَ يجادلُ في البديهيات، ويجمعُ بين النقيضين، ويُفَرِّقُ بين المتماثلين، ويجعلُ من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهلُ بالدين، وضَعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكُفرية، والسماعُ والقراءةُ لشبهات أهل الإلحاد، دون أنْ يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصَّل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل صحيح، وادعاءاتٌ بلا مستند راجح، ورغم ضعفها وبطلانها إلا أنَّها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهةً تِلوَ الأخرى، ومغالَطةً تِلوَ المغالطة، ودعوى تِلْوَ الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشبههم.
وفي هذا المقال سنتناول - إن شاء الله وقدَّر - فساد دعوى الملاحدة - هداهم الله - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مِزواجًا؛ لزواجه من تسع نسوة.
عرض موجز لدعوى الملاحدة الجائرة
يزعم الملاحدة - هداهم الله - أنَّ نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مِزواجًا، ينساقُ وراءَ شهوة فرْجه؛ فيتزوج المرأة تلو الأخرى؛ لشهوته الجامحة نحو النساء، حتى أصبح لديه تسع من النسوة، وهُنَّ: عائشة، وحفصة، وسودة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وأم حبيبة، وميمونة، وجويرية، وصفية.
ولم يكتفِ بالتسع نسوة ليُفَرِّغ شهوته الجامحة، بل كانت له سُرِّيَّتَان يتسرَّى بهما ويطؤهما بمِلْكِ اليمين، وهما: ريحانة بنت زيد بن عمرو، ومارية القبطية؛ مما يدل على إطلاقه العنان لشهوته الجنسية، فجُلُّ همِّه النساء وإرواءُ غرائزه الجنسية، وتُحرِّكُه شهوة النساء وتدفعه غريزته الجنسية إلى الزواج من أكثر من امرأة.
سر هذه الدعوى الجائرة:
إنَّ سبب دعوى الملاحدة أنَّ النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مِزواجًا - هو قَصْرُهُم مقاصدَ الزواج على مَقْصَدٍ واحد، ألا وهو إشباع الغريزة الجنسية والحصولُ على المتعة الجنسية، وكأنَّ الملاحدة يعتقدون أنَّ الإنسان لا يتزوج إلَّا من أجل قضاء الشهوة وقضاء الوطر، وهذا الاعتقاد مخالفٌ للواقع.
والرجل قد يتزوج من أجل إشباع الشهوة الجنسية، وقد يتزوج من أجل العِفة وإحصان الفرج وغضِّ البصر، وقد يتزوج من أجل إنجاب ولدٍ يحملُ اسمه أو يساعدُه أو ينفعُ به وطنَه أو ينفعُ به دينَه، وقد يتزوج من أجل تحقيق السَّكَن النفسي والاستقرار العاطفي ليتفرغ لعمله أو لعلمه أو لعبادته لربه، وقد يتزوج من أجل إعفاف المرأة التي يتزوجها وتحصين فرجها، وقد يتزوج من أجل حبه للمرأة التي يتزوجها وإعجابه بعقلها أو أخلاقها أو حسن سلوكها أو حسن تديُّنها، وقد يتزوج من أجل إرضاء الوالدين أو أحدهما، وقد يتزوج من أجل حاجته إلى امرأة تقوم بتدبير بيته وتنظيم شؤونه؛ من غسيل وكنس وطبخ وإعداد الطعام وغير ذلك، وقد يتزوج من أجل حاجته إلى امرأة تقوم بتربية وخدمة أولاده، وقد يتزوج من أجل تكثير العشيرة والأهل، وقد يتزوج من أجل توثيق الصُّحبة بينه وبين شخص عن طريق الزواج من أخته أو ابنته، وقد يتزوج من أجل إعانة امرأة أرملة على شؤون حياتها وكفالة أولادها، وقد يتزوج من أجل رعاية امرأة أرملة لرجل عزيز عليه إكرامًا له، وقد يتزوج لأن الناس يتزوجون فلا يحب أن يخالف ما عليه الناس... إلى غير ذلك من الأسباب التي تدعو الإنسان للزواج.
وإني أسأل ويحق لي أن أسأل:
ما دليلكم أيها الملاحدة على أنَّ تَعَدُّدَ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجل إشباع الشهوة الجنسية؟ وهل الرجل لا يتزوج إلا من أجل إشباع الشهوة؟! وما الدليل أن من يُعَدِّدُ الزوجات لا يعدد إلا من أجل إشباع الشهوة وقضاء الوطر؟
أيها الملاحدة، لقد قَدَّمْتُم تعدُّدَ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على أنه دليل الشهوة الجامحة والانسياق وراء الملذات، مع أنَّ لتعدد الزوجات العديدَ من الدواعي والأسباب، وقَصْرُ الهدف من تعدد الزوجات على هدف واحد قصرٌ ليس عليه دليل؛ وما يُقَدَّم بلا دليل يُرْفَضبلا دليل؛ إذ البينةُ على المدَّعِي.
هذه الدعوى تسيء إلى مدَّعيها، وتدل على قصور فكره:
إن دعوى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مِزْواجًا لزواجه من تسع نسوة - تُسيء إلى مُدَّعِيها، وتدلُّ على قُصور فِكره؛ فمُدَّعيها يعتقدُ أنَّ الإنسان لا يتزوجُ إلَّا من أجل قضاء الشهوة وقضاء الوطر؛ فلا يوجد مكان لأهدافٍ سامية أو أخلاقٍ نبيلة، وهذا وإن دل، فإنما يدل على ضِيق فِكْر مُدَّعيها ومخالفتِه للواقع، فهو يتكلم كلامًا بعيدًا عن الواقع.
ويدل هذا الكلام أيضًا على تأثُّر مدعيها بنظرية (دارون) الباطلة، التي جعلت البعضَ ينظرون للإنسان نظرةً اختزالِيَّةً، فما هو إلا كائنٌ حيوانيٌّ ماديٌّ - عندهم -، ومن قبلُ استمد (كارل ماركس) من هذه النظرية زعْمَه بمادِّية الإنسان، وأنَّ مطالب الإنسان في الحياة تنحصرُ في الحصول على الغذاء والسكن والجنس، واستمد منها (فرويد) زعْمَه بحيوانية الإنسان؛ فالإنسان عند (فرويد) أصبح حيوانًا جنسيًّا لا يملك إلا الانسياقَ وراءَ غرائزه؛ فتحرِّكُه الشهوة، وتدفعُه الغريزة.
ولا يخفى على كلِّ ذي عقل سليم أنَّ مَن يعتبر الإنسانَ كائنًا ماديًّا حيوانيًّا فاعتباره فاسد باطل؛ لأسباب عديدة، منها: أنَّه يُلْغي إنسانيَّة الإنسان وقِيَمَه الأخلاقية، ويُلْغي الفوارق الكبيرة الواضحةَ التي بين الإنسان والمادة، ويُلْغي الفوارق الكبيرة الواضحة بين الإنسان والحيوان، ويُلْغي ما يُمَيِّز الإنسانَ عن غيره من المخلوقات في هذا الكون.
والملاحدة بين أمرين لا ثالث لهما:
إمَّا الاعتراف بوجود دواعٍ ومقاصدَ وأهدافٍ للزواج غيرِ الحصول على المتعة الجنسية؛ فيكونُ قولُهم بشهوانية النبي صلى الله عليه وسلم لزواجه من تسع نسوة قولًا باطلًا وزورًا، وتحكُّمًا بلا دليل، وترجيحًا بلا مُرَجِّح.
وإمَّا إنكارُ وجودُ دواعٍ ومقاصدَ وأهدافٍ للزواج غيرِ الحصول على المتعة الجنسية، وفي هذا تكذيبٌ للواقع؛ فكَم من رجل تزوَّج ولم يكن قصْدُه من الزواج الحصولَ على المتعة الجنسية وقضاءَ الشهوة!
هذه الدعوى من شأنها وضع الأمر المستساغ الطبيعي في صورة القبيح المستنكَر:
إنَّ دعوى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مزواجًا لزواجه من تسع نسوة، من شأنها وضعُ الأمر المستساغ الطبيعي في صورة القبيح المستنكَر، ولو فُرِضَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَدَّدَ الزوجات من أجل قضاء الشهوة، والتماشِي مع ما تقتضيه الفطرة؛ إعفافًا لنفسه وتحصينًا لها من أن تفعل أمرًا مستقبَحًا مستنكَرًا، ولا يخالف بهذا عُرْفًا صحيحًا سائدًا، أو شرعًا صحيحًا مُنَزَّلًا، ما كان هذا ذمًّا له، وما كان هذا عيبًا في حقه.
وما العيب في أن يتزوج رجل امرأتين أو ثلاثًا أو أربعًا، وعنده القدرة على ذلك؛ لإشباع رغبة طبيعية فيه، ما دام هذا الزواج أمرًا طبيعيًّا مستساغًا، ويجعل الشخصَ صافيَ الذهن ذا استقرار عاطفي وطمأنينة، ويقوم بأداء ما عليه على أكمل وجه، ولا يقعُ في زنا، ولا يتطلعُ لنساء الغير، ولم يخالف عُرْفًا صحيحًا سائدًا، أو شريعةً صحيحةً مُنَزَّلَة؟!
والملاحدة بين أمرين لا ثالث لهما:
إمَّا الاعترافُ بأنَّ تزوُّجَ الرجل من أجل قضاء الشهوة أمرٌ مستساغٌ طبيعيٌّ لا نَكارة فيه - وإن كان خلافَ الأَولى والأفضل -؛ وحينئذٍ لا فرقَ بين تزوُّجِ الرجل امرأةً واحدةً من أجل ذلك الغرض، وتزوُّجِ أكثر من امرأة من أجل ذلك الغرض، بشرط ألَّا يزيد عددُ الزوجات عن العدد الذي يحقق قضاءَ الشهوة في غالب الرجال، وقد حَدَّهُ الشرع الحنيف بأربع، وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسع.
وإمَّا استنكارُ واستقباحُ أن يتزوج الرجلُ من أجل قضاء الشهوة وتلبية حاجةٍ غريزية؛ وبالتالي يُقَبِّحُون ويستنكرون فِعْلًا طبيعيًّا جِبِلِّيًّا، والأفعالُ الطبيعية الجِبِلِّيَّةُ ليس فِعْلُها مما يقبح أو يحسن، وليس مما يُمْدَحُ أو يُذَمُّ، إلَّا إذا زاد عن الحاجة الغريزية.
والزيادةُ عن الحاجة الغريزية تُعرَفُ بالعُرْفِ الشائع في المجتمع والعصرِ الذي يوجد فيه الرجل إذا لم يوجد حدٌّ معيَّنٌ من قِبَل الشرع، وقد كان الرجل قَبل الإسلام يُعَدِّدُ الزوجات حسَب ما يريد؛ فجعَلها الإسلام أربعًا فقط، بشرط أنْ يَأْمَنَ الظلمَ والجَوْر، ويكونَ عنده المقدرة والاستطاعة على ذلك؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]، وقد أُمِرَ مَن كان مِن المسلمين متزوجًا بأكثر من أربع زوجات - قبل نزول آية تحديد التعدد بأربع - أنْ يُمْسِكَ أربع زوجاتٍ منهن، ويفارقَ الباقي، وآيةُ تحديد التعدد بأربعٍ نزَلت في السنة الثامنة من الهجرة.
وعندما نزلت آية تحديد التعدد بأربعٍ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم جامِعًا بين تسع زوجات، وآخرُها زواجًا كانت السيدة ميمونةَ بنت الحارث، التي تزوجها في السنة السابعة من الهجرة.
وقد أَحَلَّ الله للنبي صلى الله عليه وسلم زوجاتِه التسعَ رَغمَ زيادتهن عن أربع؛ خصوصيَّةً له لا يشاركها فيها غيره من الناس في أمَّته، قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 50].
وإن قيل: لماذا اختصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجواز جمعِه بين أكثر من أربع نسوة في نفس الوقت؟ ولماذا لم يُطَلِّقْ من نسائه ما زاد على أربع؟
فالجواب: أنَّ هذا اختصاصٌ من الله لنبيهصلى الله عليه وسلم، وفَضْلٌ من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم،وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم يُحَرِّمُ عليهِنَّ مقامُه السامي الزواجَ بعده؛ فهُنَّ أمهاتُ المؤمنين[1]؛ قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وإِذا كُنَّ أُمهاتٍ للمؤمنين، فهن مُحَرَّماتٌ عليهم؛ لأَنَّه لا يمكنُ لإنسانٍ أَنْ يتزوَّجَ أُمَّه، وإذا كانَ لا يَجوزُ للإِنسانِ أَنْ يتزوَّجَ امرأةَ أَبيه، ولا يُمكنُ عَقْلًا أَنْ يخلف أَباه عليها، فمَن الذي يرضى أَنْ يَخلُفَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم على أَزواجه؟[2]وقال تعالى أيضًا: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53].
وإذا لم يستطع أحدٌ أن يتزوج إحدى أمهات المؤمنين إنْ طلَّقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لكنَّ أيَّ امرأة أخرى إنْ طلقها زوجُها يمكن أن تتزوج من رجل غيره؛ لذلك كان من كرم الله وفضله ألَّا يُطَلِّقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما زاد عن الأربعة؛ تكريمًا لهنَّ، وتشريفًا لهنَّ، وفضلًا من الله عليهن، وتكريمًا للنبيصلى الله عليه وسلم وإظهارًا لمقامه السامي عند الله تعالى[3]، ولتعدُّد زوجات النبيصلى الله عليه وسلم حِكَمٌ كثيرة.
وإنْ قيل: إنَّ الزواجَ من تسع نسوة ووَطْءَ المَسْبِيَّة أمرٌ مستنكَرٌ عند جميع الناس في هذا العصر.
فالجوابُ: إنْ كان الزواج من تسع نسوة ووَطْءُ المَسْبِيَّة أمرًا مستنكَرًا عند جميع الناس في هذا العصر، فلم يكن ذلك أمرًا مستنكرًا في العصر والمجتمع الذي كان فيه النبيصلى الله عليه وسلم.
ومما لا شك فيه أنَّ النبيَّصلى الله عليه وسلم كان له أعداء، ولو كان تعدُّدُ زوجاته صلى الله عليه وسلم ووَطْؤُه لِسَبِيَّتَيْنِ بمِلْكِ اليمين شيئًا مشينًا قبيحًا، ما سكت الأعداءُ عنه، رَغم أنهم كانوا يتربصون به الدوائر لكي يَصُدُّوا الناسَ عن دعوته؛ فالعدو يقصِد لِدَفْعِ قولِ عدوِّه بكُل ما قدَر عليه من المكايد، ولَمَّا لم يطعن الأعداء فيه صلى الله عليه وسلم من خلال تعديده للزوجات ووَطْئِه لِسَبِيَّتَيْنِ بملك اليمين، دَلَّ ذلك على أن هذا أمر طبيعيٌّ عند العرب في ذلك العصر.
وقد أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وتحته عشر نسوة[4]، وأسلم قيس بن الحارث وتحته ثمان نسوة[5].
وفي كتب أهل الكتاب أنَّ سليمان عليه السلام كانت له سبعمائةٍ من النساء السيدات وثلاثمائةٍ من السراري[6]، وكان لداود عليه السلام نساء وسراري من أورشليم[7]، وكان لجدعون سبعونَ ولدًا خارجون من صلبه؛ لأنه كانت له نساء كثيرات[8]، ورحبعام اتَّخَذَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ امْرَأَةً وَسِتِّينَ سُرِّيَّةً[9].
• • •
وربما يقول قائل: ربما وُجِدَ مَن طَعَن في النبي صلى الله عليه وسلم بتعدُّد زوجاته، ولكنْ لم يُنْقَل لنا ذلك، أو قد أَخْفَى المسلمون هذا الطعن.
والجواب: قد ذكر التاريخ مطاعنَ أعداءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأكاذيبَهم عليه؛ فلماذا لم يَذكر هذه الدعوى؟!
ولو وجدت هذه الدعوى في أيامه وأخفاها المسلمون، فلن يُخْفِيَهَا غيرُ المسلمين، خاصةً أنهم كانوا يبذلون كل غالٍ ونفيس في صَدِّ الناس عن دعوته، وهذه الدعوى مما تتوافر الهِمَمُ والدواعي على نقلِها، فعدمُ نقلها يدل على عدم وقوعِها.
ومن الجَوْر والظلم أن نَحْكُم على تصرفات أشخاصٍ كانوا في عصر سابق لنا بقوانين وأعرافِ عصرنا الحالي، فالواجب علينا عند الحكم على تصرف شخص في عصر سابق لنا أنْ نحاكِمَه طبقًا للقوانين والعادات والأعراف الخاصة بمجتمعه وزمنه، ما دام لم يوجد نصٌّ من قبل الشرع، وما دام هذا التصرُّف ليس مما يُجَرَّمُ ويُذَمُّ في كل عصر ومِصر.
ديدن الملاحدة الانتقاء بلا دليل:
أو كذب دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شهوانيًّا مِزْواجًا:
إنَّ الرجل المِزْوَاج الشهوانيَّ يكونُ شغلُه الشاغلُ في حياته الزواجَ وقضاءَ الشهوة، تحرِّكُه شهوته، وتدفعُه غريزته، وينفق الكثيرَ من وقته وماله في تحصيل المتع الجنسية، وتظهر شهوته في سلوكه وتصرفاته، وإن أخفاها وقتًا، فلن يخفيَها طُولَ الوقت؛ فكل إناء بما فيه يَنْضَح.
ولا يخفى على الناس حالُ الرجل الشهواني في الغالب، خاصةً إذا كان من أهل المناصب والسيادة والزعامة، أو من أهل الغنى والترف، وإن خَفِيَ أمرُه على قومه وعشيرته، فلن يخفى ذلك عن أعدائه ومخالفيه، والأعداء والمخالفون يروجون الإشاعات في الغالب؛ فكيف إذا وجدوا ما يَشِينُ عدوَّهم؟!
والمتتبعُ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجده اشتهر بالزهد والعبادة والتضرع إلى الله، وكان جُلَّ وقته إمَّا يتعبد لربه، وإمَّا يُعَلِّمُ الناس شرع ربه، وإمَّا يصلح بين الناس، وإمَّا ينظم أمر الناس، وإمَّا يجاهد في سبيل الله، وإمَّا يفتي الناس في أمور دينهم، ومَن كان هذا حاله، يَسْتَبْعِدُ كل عاقل أن يكون رجلًا شهوانيًّا.
ولو كان النبيصلى الله عليه وسلم رجلًا شهوانيًّا، لَمَا حَدَّ تعدد الزوجات بعدد معين.
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج من أجل قضاء الوطر، لاختار الأبكار الشابات باهرات الجمال، وكُلُّ من تزوجهن كُنَّ ثيباتٍ ما عدا عائشة، وهل الرجلُ الشهوانيُّ يتزوج بأكثرَ من امرأة ثيبٍ؟ حتى أوَّل امرأة تزوَّجها، وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، كانت ثَيِّبًا، تزوجت مرتَيْن قبلَه، وكانت أكبر منه سِنًّا، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، ورُوِيَ أنها كانت في الأربعين من عمرها[10]؛ فهل هذا من صفات الرجل الشهواني؟!
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وهي أكبر منه سِنًّا وهو في عُنْفُوان شبابه في سن الخامسة والعشرين، ولم يتزوج بغيرها إلى أن توفيت[11]، وكان عمره وقت وفاتها خمسين سنة، فإذا لم يكن إلى هذا العمر رجلًا شهوانيًّا، وكان مقتصرًا على زوجة واحدة؛ فهل مِن العدل والإنصاف أن نقول: إنه كان رجلًا شهوانيًّا بعد ذلك العمر؟!
وظل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها لا يتزوج أكثر من عامين، وأول امرأة تزوجها بعد خديجة هي سودة بنت زمعة رضي الله عنها[12]، وكانت امرأةً عجوزًا كبيرةَ السن[13]وثَيِّبًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة والخمسين من عمره؛ فهل هذا فعل رجل شهواني؟!
وهل من المعقول للرجل الشهواني أن يتزوج في رَيْعان شبابه من امرأة ثيِّبٍ وأكبرَ منه سِنًّا ويمكث معها 25 سنة من غير أن يتزوج بغيرها؟ ويمكث بعد وفاتها سنتين من غير زواج، ثم يتزوج بعد ذلك امرأةً ثيبًا وأكبر منه سِنًّا؟ فهل الرجل الشهواني يصبر عن النساء حتى هذه السن؟ وعندما يتزوج، يتزوج بعجوز وثيِّب؟!
أخبروني أيها الملاحدة: ما الذي يفعله الرجل الشهواني في لذات الجسد إذا بلغ من المكانة والسلطان ما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم بين قومه؟ لم يكن عسيرًا عليه أن يَجمع إليه أجمل بنات العرب، وأشدَّ جواري الفرس والروم فتنةً، ولم يكن عسيرًا عليه أن يُوَفِّر لنفسه ولأهله من الطعام والكساء والزينة ما لم يتوفر لسيد من سادات الجزيرة في زمانه، فهل فعل محمد صلى الله عليه وسلم ذلك بعد نجاحه؟ هل فعل محمد صلى الله عليه وسلم ذلك في مطلع حياته؟ كلا لم يفعله قَطُّ، بل فعل نقيضه[14].
أيها الإخوة، إن دَيْدَنَ الملاحدةِ الانتقاءُ بلا دليل، والأخذُ ببعض النصوص دون بعض، والأخذ ببعض النصوص بِمَعْزِلٍ عن النصوص الأخرى، ألم يقرأ الملاحدة الأحاديث التي تُثْبِتُ أنَّ النبيَّصلى الله عليه وسلم كان قَوَّامًا بالليل صَوَّامًا بالنهار؟ وهذا الوصف يتعارض مع وصف الرجل الشهواني.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تَتَفَطَّرَ قدماه، فقالت عائشة: "لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟"، قال: ((أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا؟))، "فلما كثر لحمه - أي: كبِرت سنه - صلى جالسًا، فإذا أراد أن يركع، قام فقرأ ثم ركع"[15].
وعن عبدالله بن عباس، أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وهي خالته - قال: "فاضطجعْتُ في عَرْض الوسادة، واضطجعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنٍّ معلقة، فتوضأَ منها فأحسن وُضوءه، ثم قام يصلي"، قال ابن عباس: "فقمْتُ فصنعتُ مثلَ ما صنع، ثم ذهبْتُ فقمْتُ إلى جنبه، فوضَعَ يده اليمنى على رأسي، فأخذ بأذني اليمنى يَفْتِلُها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح"[16].
ومن المعلوم أنَّ الرجلَ الشهوانيَّ يكونُ كثير الطعام، ويجلبُ لنفسه ولنسائه ملذات الطعام والشراب؛ فهل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرَ الطعام يجلب لنفسه ولنسائه ملذات الطعام والشراب؟!
وعن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة: "ابن أختي، إنْ كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلالِ، ثلاثةَ أهلة في شهرين، وما أُوقِدَتْ نار في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا خالة، وما كان يُعيشكم؟ قالت: الأَسْودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا"[18].
وعن عروة عن عائشة، قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم يومين من خبزِ بُرٍّ إِلَّا وأحدهما تمر"[19].
بعض الحكم من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
إنَّ لتعدُّد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم حِكَمًا كثيرة، منها:
• تعدُّدُ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كان ضرورةً؛ من أجل مزيد من الأدلة على صِدْقِ رسالته، فلو كان كَذَّابًا ما عَدَّد الزوجات؛ إذ الكذابُ لو أَخْفَى كَذِبَهُ على الناس، لن يستطيع أنْ يخفيَه عن زوجته، وإن أخفاه عن بعض زوجاته فلن يستطيعَ إخفاءه عن جميع زوجاته، فتعدُّدُ زوجاتِه يدُلُّ على أنه ليس عنده ما يَشِينُه ويَتَحَرَّجُ من إظهاره للناس.
• ومِن حِكَمِ تعدُّدِ زوجاته: تكثيرُ من يشاهِد أحوالَه الباطنة، فينتفي عنه ما يَظُنُّ المشركون أنه ساحر؛ فالزوجات أعلم بأزواجهن.
• وتعدُّد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كان ضرورةً لتحقيق مصالحَ تشريعية؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقتدي به المسلمون، ويتأسون بأفعاله وأقواله وسلوكه؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، فإذا فَعَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْلًا غيرَ خاص به، فهو مشروع، وليس عيبًا وليس حرامًا، ولا يجوز لأحد أن يعترضَ على من يفعل مثل ما فعَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فهو القدوة وهو الأسوة[20]، وهو خير الناس خَلْقًا وخُلُقًا، وأَعْبَدُ الناس وأخشاهم لله.
وزواجُه بعد خديجة رضي الله عنها زوجةً واحدةً ثم أكثرَ من واحدة، وزواجُه من الأكبرِ منه سِنًّا والأصغرِ منه بكثير، وزواجُه من البِكْرِ والثَّيِّبِ والأرملة، كان ذلك رحمةً بالأمَّة ورفعًا للحرج، ولإبطالِ بعض السلوكيات والعادات السيئة، ومنها:
1 - التشنيع على من يتزوج بعد موت زوجته.
2 - التشنيع على من يتزوج على زوجته.
3 - التشنيع على من يعدد الزوجات.
4 - التشنيع على من يتزوج امرأة أكبر منه سِنًّا[21].
5 - التشنيع على الشيخ الكبير إذا تزوج امرأة أصغرَ منه بكثير، وكان في سِنِّ أبيها أو جدها.
وكان في زواجه من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها تكريمٌ لها ولزوجها المُدافعِ عن الإسلام، ورعايتُها؛ فهي تحتاج إلى من يرعاها، وقد كانت كبيرةَ السن، وفي فعلهصلى الله عليه وسلم رفعٌ لحرجِ من يتزوج امرأةً أرملة[23]، وقد كانت من أَسْبَقِ النساء في الدخول في الإسلام، وكان زوجُها (السكران بن عمرو)، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حَلَّتْ، خَطَبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أولَ امرأةٍ تزوَّجَها بعد وفاة خديجة، وبعد عدة أعوام وَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لعائشة[24].
وفي زواجه من السيدة عائشة رضي الله عنها، التي كانت بنتَ صديقه أبي بكر رضي الله عنه - توثيقٌ للعَلاقة التي بينه وبين صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ورفعٌ لحرج مَن يتزوج بنت صديقه، ويوجد حتى الآن من يُشَنِّعُ على زواج الرجل من بنت صديقه[25]، وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد كانت أصغر منه سِنًّا بكثير - رفعٌ لحرجِ تزوُّجِ الشيخ الكبير من امرأةٍ صغيرةِ السن، في سن بناته أو أحفاده، ويوجد حتى الآن من يُشَنِّعُ على زواج الشيخ الكبير من المرأة الصغيرة، بل من يدعي عدم وجود مثل هذا الزواج في الواقع[26].
وكان في زواجه من السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها تكريمٌ لها ولزوجها؛ فقد كانت تحت خُنَيْسٍ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فتوفي عنها من جراحات أصابته ببدر[27]، وفي زواج النبيصلى الله عليه وسلم منها توثيقٌ للعَلاقة التي بينه وبين أبيها وصاحبِه عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، ورفعٌ لحرجِ مَن يتزوج بِنْتَ صديقه.
وكان في زواجه من أم سلمة رضي الله عنها، بعد وفاة زوجها أبي سلمة عبدالله بن عبدالأسد من جراحة أصابته في أُحُد - تكريمٌ لزوجها المدافع عن الإسلام، وكفالةٌ لأولادها، ورعايتُها؛ فهي تحتاج إلى من يرعاها[28]، وفي فعلهصلى الله عليه وسلم رفعٌ لحرجِ مَن يتزوج امرأةً أرملة لرعايتِها وكفالةِ أولادها إن كان عندها أولاد.
وربما يقول قائل: كان يكفي أن يُنفِقَ نبيُّكم على أم سلمة وأولادِها ولا يتزوجها؛ فهذا دليل على أنَّ له غرضًا آخر.
والجواب: إن كان غرض النبي صلى الله عليه وسلم من النكاح قضاءَ الوطر، فهذا أمر طبيعيٌّ جِبِلِّيٌّ لا عيبَ فيه، والإنفاقُ على المرأة وأولادها دُون زواج إن كان يَسُدُّ شيئًا من حاجاتها وحاجاتِ أولادها، فلا يسدُّ جميعَ الحاجات، والمأكلُ والمشربُ والملبسُ ليست الأشياءَ الوحيدةَ التي يحتاج إليها الإنسان، وزواجُ المرأة بعد وفاة زوجها فيه إحصانٌ لفرجها وإعفافٌ لنفسها من الوقوع في محظور.
وزواجُه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، كان فيه بيانُ جوازِ أن يتزوَّج المُتَبَنِّي لزوجة المُتَبَنَّى إذا طَلَّقَهَا؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، فالآيةُ نصٌّ صريحٌ في أنَّ الزواجَ من السيدة زينبَ كان لبيان أنَّ الذي قد تبنَّى أحدًا يَحِلُّ له أن يتزوج زوجةَ الذي تبنَّاه إذا طُلِّقَتْ، وأنَّ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك كان لرفع الحرج عن الناس.
وكان في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها - خيرٌ كثيرٌ؛ فقد أَعْتَقَ المسلمون - بزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم - جميعَ الأسرى السَّبَايَا مِن بني المُصْطَلِق، ودخل الجميع في الإسلام، فعن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: "وقَعَتْ جُويريةُ بنتُ الحارث بنِ المُصْطَلِقِ في سَهْمِ ثابت بن قيس بن شَمَّاس، أو ابنِ عمٍّ له، فكاتَبت على نفسِها، وكانتِ امرأةً مُلَّاحَةً تأخُذها العينُ"، قالت عائِشةُ: "فجاءت تسألُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم في كتابتها، فلما قامَتْ على البابِ فرأيتُها كَرِهْتُ مكانَها، وعرفتُ أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم سيرى منها مِثْلَ الذي رأيتُ، فقالت: يا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، أنا جُويريةُ بنتُ الحارِثِ، وأنا كان من أمرِي ما لا يخفى عليكَ، وإني وقعتُ في سهم ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شمَّاس، وإني كاتبتُ على نفسي، فجئتُك أسالُك في كتابتي، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: ((فهل لكِ إلى ما هو خيرٌ منه؟))، قالت: وما هو يا رسولَ الله؟ قال: ((أُؤدِّي عَنْكِ كتابتكِ وأتزوَّجُكِ))؛ قالت: قد فعلتُ، قالت: فتسامع - تعني الناسَ - أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم قد تزوَّج جُويريَةَ؛ فأرسلُوا ما في أيدِيهم من السَّبْي، فأعتقُوهُمْ، وقالوا: أصهار رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فما رأينا امرأةً كانتأعْظَمَ برَكةً على قومها منها؛ أُعتق في سَبَبِها مائةُ أهلِ بَيْتٍ من بني المُصْطَلِقِ"[29].
وكان في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها - مواساةٌ وبِرٌّ ورحمةٌ بها؛ فقد قُتل زوجُها كِنَانَةُ بنُ أبي الحُقَيْقِ يومَ خيبر، فصارت مع السبي، فأخذها دحيةُ الكلبيُّ، ثم استعادها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها، وكان بإمكانه أن يَتَسَرَّى بها كَمِلْكِ يَمِينٍ، لكنَّه لم يفعلْ ذلك، بل أعتَقَها وتزوجها وحَسُنَ إسلامُها.
وكان في زواجه من أم حبيبة رضي الله عنها إكرامٌ لها؛ فقد ثَبَتَتْ على الإسلام رغم كُفْرِ أبيها أبي سفيان في هذا الوقت، وتَنَصَّرَ زوجُها عُبَيْدُالله بنُ جحش، وكان في زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها رعايةٌ لها، وإعانةٌ لها ألَّا ترجع إلى أهل الكفر، ولا ترجعَ إلى الكفر بتعذيب أهلها لها.
وكان في زواجه من ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها إكرامٌ لها ورعايةٌ لها؛ فقد كانت أرملةً كبيرة السن تحتاج إلى من يرعاها، وكانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم تحت أبي رهم بن عبدالعُزَّى، فمات حين خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم معتمِرًا سنة سبع من الهجرة، فذكرها العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زواجه منها تكثيرٌ لعشيرته بمصاهرته لبني هلال.
وتعدُّد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه إظهارٌ لعدله في معاملته مع زوجاته؛ فتقتدي الأمَّة به في العدل مع الزوجات.
وكان تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ضرورةً؛ لتخريج مجموعة من النساء تُعَلِّمُ النساءَ الأخرى الأحكامَ الشرعية الخاصةَ بهن، كمسائل الحيض والنفاس، وعن عائشةرضي الله عنها أنَّ امرأةً سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: ((خذي فِرْصَةً من مِسْكٍ، فتطهري بها))، قالت: "كيف أتطهر؟"، قال: ((تطهري بها))، قالت: "كيف؟"، قال: ((سبحان الله، تطهري))، "فاجتَبَذْتُها إليَّ، فقلتُ: تَتَبَّعِي بها أَثَرَ الدم"[30].
وكان في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خيرٌ كبيرٌ على الأمة، وفضلٌ عظيمٌ في تبليغ الدين ونشرِ السنة النبوية بين الناس، وخاصةً بين النساء؛ فكانت حجراتهنَّ رضي الله عنهن مدارسَ يقصدُها طلاب العلم، فيَجِدُ السائل - عندهنَّ - جوابَه، والمستفتي فتواه، والشاكُّ يقينَه... ومن نعمة الله تعالى على هذه الأمة أنْ تعدَّدتْ هذه المدارس بتعدُّدِ زوجاته صلى الله عليه وسلم[31].
وقد بلغ عدد الأحاديث التي رواها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف حديث، وبلغ ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها 2210 حديثًا [32]، وروت السيدة أم سلمة رضي الله عنها 378 حديثًا [33]، وروت السيدة ميمونة رضي الله عنها 76 حديثًا[34]، وروت السيدة أم حبيبة رضي الله عنها 65 حديثًا [35]، وروت السيدة حفصة رضي الله عنها 60 حديثًا[36]، وروت السيدة جويرية رضي الله عنها سبعة أحاديث[37]، وروت السيدة سودة رضي الله عنها خمسة أحاديث[38]، وروت السيدة صفية رضي الله عنها عشرة أحاديث[39]، وروت السيدة ميمونة رضي الله عنها ستةً وأربعون حديثًا[40].
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] ليس معنى أنَّ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتُ المؤمنين أنهن كالأمهات في كل شيء، بل في معنى دون معنى، فمعنى أنَّ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أنهنَّ للمؤمنين كالأمهات في الحُرمة والتَّعظيم والتَّبجيل وتحريمِ النكاح، ولَسْنَ كالأمهات في غير ذلك؛ فلا يحل للمؤمنين رؤيتهن، ولا يَرِثْنَ المؤمنين، ولا يَرِثُونَهُنَّ، مع أنَّ الأم يجوز لأبنائها رؤيتُها والأم ترث أبناءها وأبناؤها يرثونها.
[2] القرآن ونقض مطاعن الرهبان؛ للدكتور صلاح عبدالفتاح ص 657.
[3] روائع البيان تفسير آيات الأحكام؛ لمحمد علي الصابوني 2/ 303.
[4] عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا))؛ رواه أحمد في مسنده حديث رقم 4607 قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح بطرقه وشواهده، ورواه ابن حبان في صحيحه حديث رقم 4156، ورواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 2779.
[5] عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: "أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ((اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا))"؛ رواه ابن ماجه في سننه حديث رقم 1952، وأبو داود في سننه حديث رقم 2241، ورواه البيهقي في السنن الصغرى حديث رقم 2472.
[10] المشهور في كتب السيرة أن عمر السيدة خديجة رضي الله عنها عندما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان أربعين سنة، وأنها لما توفيت كانت بنت خمس وستين، ولم يثبت حديث صحيح في تحديد عمرها وقت زواج النبي صلى الله عليه وسلم لها، والثابت أنها كانت أكبرَ منه سِنًّا بسنوات كثيرة؛ لقول السيدة عائشة - رضي الله عنها - عنها: إنها عجوزٌ من عجائز قريش حمراءُ الشدقين، وكان ذلك بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر (روى الحديث البخاري في صحيحه حديث رقم 3820 باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2437 باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها)، ولأن السيدة عائشة وصفتها بأنها عجوز ولم تقل: إنها امرأة كبيرة السن، ووصفتها بأنها حمراء الشدقين، والشدق جانب الفم، وقولها: "حمراء الشدقين" أرادت أنها عجوز كبيرة في السن إلى درجة أنها قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبق في فمها بياض من الأسنان؛ وإنما حمرة اللثات، والعَجُوز والعَجُوزة مِنَ النِّسَاءِ: الشَّيْخَة الهَرِمة (المحكم والمحيط الأعظم؛ لابن سيده 1/ 300، ولسان العرب؛ لابن منظور 5/ 372)، وعليه؛ فمن المستبعد أن يكون سنها حين الوفاة خمسين أو فوق الخمسين بقليل، بل أكبر من ذلك، ولو عدنا بالزمن إلى الوراء وأخذنا في الاعتبار أن مدةَ زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفِّيَت خمسٌ وعشرون سنة، تَعَيَّنَ أنها وقت زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم كان سنها أكبر من خمس وثلاثين سنة. هذا ما تبين لي، والله أعلم.
[12] قال الطبري: "فلما توفيت خديجة، تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها، فاختُلف فيمن بدأ بنكاحها منهن بعد خديجة، فقال بعضهم: كانت التي بدأ بنكاحها بعد خديجة قبل غيرها عائشة بنت أبي بكر الصديق، وقال بعضهم: بل كانت سودة بنت زمعة بن قيس بن عبدشمس بن عبد وُدِّ بن نصر؛ فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرةً لا تصلح للجماع، وأما سودة فإنها كانت امرأةً ثيبًا، قد كان لها قبل النبي صلى الله عليه وسلم زوج، وكان زوجها قبل النبي السكران بن عمرو بن عبدشمس، وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة... ولا خلاف بين جميع أهل العلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بسودة قبل عائشة"؛ تاريخ الطبري 3/ 161.
[13] قال الشيخ أبو زهرة: "وتزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من بعدها قبل الهجرة سودة بنت زمعة، وكانت نحو سن خديجة أي في ست وستين من عمرها، ولم تكن في جمال خديجة"؛ خاتم النبيين لأبي زهرة 3/ 1079.
[14] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه؛ لعباس محمود العقاد؛ ص 141.
[15] رواه البخاري في صحيحه؛ حديث رقم 4837 باب ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 2].
[16] رواه البخاري في صحيحه؛ حديث رقم 183، باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، ورواه مسلم في صحيحه؛ حديث رقم 763 باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
[17] سنن النسائي الكبرى حديث رقم 2508، ورواه الترمذي في سننه رقم 745، وابن حبان في صحيحه حديث رقم 3643.
[18] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2567 كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2972 كتاب الزهد والرقائق.
[19] رواه مسلم في صحيحه؛ حديث رقم 2971 كتاب الزهد والرقائق.
[20] التأسي يكون في الفعل بفعله، وفي التَّرْك بتركه؛ أما التأسي به في الفعل: فهو أن نفعل كما فعل، على الوجه الذي فعَل؛ لأجل أنه فعل، والتأسي في الترك: هو أن نترك مثل ما ترك، على الوجه الذي ترك؛ لأجل أنه ترَك.
[21] وهناك من يشنع على المرأة إذا تزوجت رجلًا أصغر منها سِنًّا.
[22] وهناك من يشنع على الأرملة إذا تزوجت بعد وفاة زوجها، بل من يشنع على الثيب إذا تزوجت بعد طلاقها.
[23] يشيع عند كثير من الناس أن المرأة الأرملة لا تتزوج بعد وفاة زوجها وفاءً له؛ وهذا غير صحيح ومصادم للنصوص الكثيرة التي تحض على الزواج إحصانًا للفرج وإعفافًا للنفس.
[25] بعضهم يقول لمن يفعل ذلك: أتتزوج بنت صاحبك وأنت تزوره كثيرًا؟ ماذا سيقول الناس؟ الناس سيظنون شرًّا، أكيد حصلت علاقة مَشينة تريد التغطية عليها بالزواج.. ونحو هذا الكلام.
[26] من يدَّعي أنه لا يوجد امرأة صغيرة السن تتزوج من الشيخ الكبير، أقول له: الواقع بخلاف ما تدعيه، وبحكم عملي كمختص تخدير، قمتُ بتخدير امرأة تبلغ عشرين عامًا لعَمَل ولادة قيصرية، وكان زوجُها يبلغ السبعين، وأخرى تبلغ ثماني عشرة سنة وزوجُها يبلغ الستين، وأخرى سبعَ عشرة سنة وزوجُها يبلغ الخمسين.