المستشرقون واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية
د. إسماعيل على محمد رابطة علماء أهل السنةتاريخ الإضافة: 4/5/2016 ميلادي - 27/7/1437 هجري
المستشرقون واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية
لقد وضع المستشرقون أيديهم في يد كل مناوئ للإسلام، وكاره له، فتعاونوا مع الاستعمار، وآزروا الصهيونية، وكانوا - ولا يزالون - الخادم المطيع للحركة التبشيرية الصليبية، فلم يضنُّوا على أعداء الإسلام برأي أو مشورة، بل سخروا علمهم وبحوثهم لخدمة أولئك الخصوم وأمثالهم جميعاً، ولتحقيق أهدافهم العدائية.
وقد ذكرْنا - فيما سبق - أدلة دامغة على ما بين الاستشراق وخصوم الإسلام من علاقة وطيدة متناغمة، وذلك في الفصل الثاني، الذي بسطنا الحديث فيه عن دوافع الاستشراق.
لقد أسهم الاستشراق - ولا يزال - في شن حرب فكرية ضروس على الإسلام، وتأجيج نار حرب الكلمة أو الغزو الفكري ضد الإسلام وأهله، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الاستشراق هو الذي تولى كبر هذه الحرب الفكرية، فكان بمثابة المصنع الذي يصنع الشبهات، وينسج الأباطيل والمفتريات التي بها وعليها تقوم الحرب الفكرية، التي تستهدف تقويض بنيان الإسلام، وصرف الناس عنه، وإضعاف شأنه في نفوس أتباعه، والحيلولة بين المسلمين وبين اتخاذه منهج حياة، ونظاماً يطبقونه في جميع أمورهم المعاشية والمعادية، ما يؤدي إلى محو شخصية الأمة الإسلامية، وإذابة كيانها.
ولقد استهدفت حملاتُ الاستشراق الطائشة كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، والنيل منه، فكانت هناك حملات للنيل من ربانية الإسلام ذاته، والنيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة تجريده من صفة النبوة، والاصطفاء الإلهي له صلى الله عليه وسلم للرسالة، وكذلك حملات للنيل من القرن الكريم، وادعاء بشريته، والتشكيك في السنة النبوية، والنيل من عقيدة الإسلام وشريعته وتاريخه ورجاله... وغير ذلك، وقد سودوا من أجل ذلك آلافاً من الكتب وملايين الصحائف، واقترفوا الزور والبهتان، واجترحوا القبائح والآثام، يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.
وجدير بالذكر أننا لن نعوِّل كثيراً على ما نسجه المستشرقون القدامى من مفتريات وأباطيل في العصور الوسطى، وإنما سنركز على آراء ومفترياتالمستشرقين المحدثين، وهذا لغرض مقصود؛ حيث يدعي البعض أن المستشرقين المحدثين الذين جاءوا في العصر الحديث؛ قد تحرروا من تلك الروح العدائية التي هيمنت على الاستشراق فيما مضى، فلزم أن نبيِّن أن الحقيقة غير ذلك؛ فإن مستشرقي اليوم هم مستشرقو الأمس، وإن الحملات العدائية التي شنها الاستشراق على الإسلام قديماً لا تزالأخواتها تشن على الإسلام اليوم، وإن ذات الأباطيل التي قذفها الاستشراق صوب الإسلام سلفاً هي بعينها التي يستخدمها الاستشراق حديثاً، وهذا ما يتأكد من خلال إيراد مفتريات المستشرقين المحدثين، وحملاتهم الظالمة الطائشة على الإسلام والمسلمين.
وهذه صور منها، نوردها ثم نكِرّ عليها بما يدحضها ويكسرها، ويثبت بطلانها - بعون الله ومشيئته - وذلك على النحو التالي:
النيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد حرص المستشرقون على أن ينالوا من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشوهوا صورته عليه الصلاة والسلام، ويشككوا في نبوته وجدارته صلى الله عليه وسلم بأن يكون رسول رب العالمين، حيث توهموا أنهم إن أفلحوا في هدم تلك الشخصية الربانية العظيمة -كما يحلمون- فسوف ينهار الدين الذي جاء به، وينهدم الصرح الذي أسسه، ويصبح محل نظر، ما دام أن الرجل الذي كان محور هذا الدين وداعيته، قد ثبت عدم أهليته وصلاحيته -حاشاه صلى الله عليه وسلم- لأن يكون نبياً أو رسولاً.
ولهذا فقد راحوا ينسجون كثيراً من الأباطيل والمفتريات حول شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
وصم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية:
حاول كثير من المستشرقين أن يصوروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان أسيراً لشهوته الجنسية، وليس له همٌّ إلا إرواءها وإشباعها بالطرق المشروعة وغير المشروعة - زعموا -.
ففي كتاب له بعنوان "محمد"، كان يُدرس - مع الأسف - حتى وقت قريب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، يقول المستشرق الفرنسي "مكسيم رودنسون" في ص51:
"كان من سوء الحظ أن شعر (أي: محمد) تجاه خديجة بالعاطفة الطبيعية، التي أرواها بعد ما تقدمت به السنن مع النساء الشابات والمحبوبات في حريمه".
ونلاحظ هنا استخدام الكتاب للفظ Procure ، مع إمكانية استخدام ألفاظ أخرى، وكذلك استخدام لفظ الحريم، لكنها الدناءة تأبى إلا أن تختار ألفاظها.
ولا ينسى المؤلف في نهاية الفقرة أن يقترح أن حرمان النبي صلى الله عليه وسلم من أمه في سن مبكرة، هو ما دفعه لحب هذه "المرأة العجوز" - في إشارة واضحة إلى عقدة أوديب -[1].
وفي ص 55 يقول "رودنسون":
"كان محمد مرتبطاً بأم أولاده بروابط أقوى من أي وثيقة، رغم ما عرفناه من ميوله الغرامية بعد ذلك، ويصعب أن نتخيل أوقاتاً مرَّ بها دون أن يكون مستحقاً للعبارة الإنجيلية التي كان سماعها سيفزعه لو سمعها، وهي أنه "ارتكب الزنا في قلبه".
... كان عليه أن يتجنب الإغراءات عدة مرات، ربما ببساطة خادعة، ولكن بصرف النظر عن بساطة أو صعوبة الأمر فإننا نعرف كم كلفه التغلب على نداء الغريزة، الذي ربما يكون قد نجح في التخلص منه"[2].
ويصف المستشرق الفرنسي "هامر بورجشتال" في كتابه "صور لحياة الحكام المسلمين العظام" النبي صلى الله عليه وسلم بـ"ضلال شهوانيته"[3].
وأمثال هذا كثير مما يسوء ذكره، ونعوذ بالله من اعتقاده، ونبرأ من معتقديه، وقد ذكرنا هنا ما ذكرنا للاستشهاد فقط على ما نحن بصدده، ومن باب أن رواية الكفر ليست كفراً، - كما ذكر علماؤنا رحمهم الله -.
وأما ما زعمه أولئك الضالون وذكروه من التطاول على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إلصاق التهم الرخيصة به صلى الله عليه وسلم فمحض افتراء، ولا يمتُّ إلى الحقيقة بأية صلة، ولا يستند على شيء من دليل، أو أثارة من علم.
فمن أين جاء الكاذب "رودنسون" بما جاء به من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غارقاً في أوحال الزنا، وأنه حتى بعد ما تزوج كان صاحب ميول غرامية، وأنه صلى الله عليه وسلم "ارتكب الزنا في قلبه"، وأن هناك شكا في أنه صلى الله عليه وسلم قد نجح في التغلب على نداء الغريزة والتخلص منه، وإخماد نار الشهوة، وإطفاء لهيبها؟؟!.
ومن أين جاء المفتري "ديدرو" بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل صديق للنساء - بما تعنيه كلمة (صداقة) بين الجنسين في العالم الغربي -، فالصداقة بين الرجال والنساء لدى الأوربيين تعني علاقة عشق وغرام، تُستباح بها المعاشرة الجنسية بين أي رجل وامرأة أجنبيين؟؟!.
هل لما افترياه من مرجع؟!.. كلا.
إن المراجع العلمية التاريخية التي بين أيدينا، والمتعلقة بسيرته صلى الله عليه وسلم خاصة - وهي معروفة جيداً لدى المستشرقين وأضرابهم - لَتُسطر صفحة بيضاء نقية مشرقة للنبي صلى الله عليه وسلم، في مراحل حياته كلها، سواء منها ما كان قبل البعثة، أم ما في كان بعدها، وتُخبر بوضوح وصراحة أنه صلى الله عليه وسلم كان مثالاً لا نظير له في الطهر والعفة والأمانة، وكرم الشمائل، وهو لهذا كان موضع ثقة وتقدير معاصريه، بمن فيهم أعداؤه صلى الله عليه وسلم.
فلقد اجتمعت كلمة قريش، واتفقت آراؤهم على تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، في مشكلة استعصت عليهم، وكادت أن تُسل من أجلها السيوف، وهي مشكلة رفع الحجر الأسود ووضعه في مكانه، وقت أن كانوا يقومون بتجديد بنيان الكعبة.
روى ابن إسحاق أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إليّ ثوبا، فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلا حتى إذا بلغوا به موضعه؛ وضعه هو بيده ثم بنى عليه.
وكانت قريش تُسمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين[4].
فهل كان يتأتى للقوم أن يضعوا ثقتهم في محمد، ويجمعوا - وفيهم حكماؤهم وشيوخهم - على جعله حكماً بينهم، ويلقبوه بالأمين، لو كان - كما يفتري أولئك المستشرقون - غارقاً في شهواته الجنسية المحرمة، وميوله الغرامية، ومنهمكا في صداقاته مع النساء، كما يزعمون؟!.
وهل يُلقب بالأمين في قومه من يكون مدنِّسا للأعراض فيهم، هاتكاً للحرمات، كاشفاً للأستار والعورات، ماجنا غارقاً في الشهوات والنزوات؟. اللهم لا..
ثم إنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء ومناوئون كثيرون في عصره، وكانوا حريصين على اهتبال أية فرصة، واستغلال أي موقف مكن أن يُشوهوا من خلاله صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلماذا سكتوا عن سلوكه صلى الله عليه وسلم، و"ضلال شهوانيته" - على حد تعبير المفتري "بورجشتال" -؟!.
لماذا أغمضوا عيونهم، وكفوا ألسنتهم عن فضح النبي صلى الله عليه وسلم بسلوكه وعلاقاته المحرمة منع النساء - حاشاه صلى الله عليه وسلم -.
لماذا لم يقُل قائلهم: انظروا إلى هذا الرجل الذي كان من أمره كذا وكذا، كيف يأتي اليوم ويدعونا إلى الطهر والعفاف، ومكارم الأخلاق؟!.
لماذا تركوا هذا المطعن الخطير ولم يثيروا هذه الشبهات ويُشهروها في وجه صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم؟! - ولو كان لها وجود -.
هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان غريباً عنهم، غامضاً عليهم؟
كلا؛ فلقد لبث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة أربعين سنة، وبعدها ثلاثاً وعشرين، حتى توفاه الله، وكانت حياته مكشوفة، ليس فيها أسرارٌ غامضةٌ، ولذلك قال تعالى - ردا على خصوم الدعوة - ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16]، أي من قبل الوحي والقرآن.
إذاً فلماذا لم يثيروا هذا الذي يفتريه المستشرقون؟!.
إن الإجابة ببساطة لا تعقيد فيها؛ هي أنه لم تكن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم انحرافات، ولم يكن لديه من السلوكيات ما يجعله موضع نقد أو مؤاخذة، بل كان سلوكه صلى الله عليه وسلم معروفا ومشهوراً بالطهر والإشراق، محفوفاً بمكارم الأخلاق، فكان نبيلا شريفا، وملء الأسماع والأبصار، وكان بحق كما وصفه ربه - في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فهو أكرم الناس خلقاً، وأعفهم نفساً، وأطهرهم قلباً.
كان هذا بادياً لمناوئيه قبل مُحبيه، وخصومه قبل أصدقائه، عرفوا هذا النبل فيه، فلم يجرؤوا على أن يفتروا عليه الكذب، رغم مخالفتهم، له أما المستشرقون - أصحاب المنهج العلمي فيما زعموا - فقد عرفوا أيضاً هذا النبل الذي يكتنف شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم أباحوا لأنفسهم الكذب والافتراء على الله ورسوله، وراحوا يتجاهلون التاريخ المشرق ويتعامون عن الحقائق الناصعة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخترعون الأباطيل وينسجون الأساطير، ويقبلون الأمور!!.
فبئس ما يصنعون.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة لا تحل له، وعندما أخذ البيعة على النساء لم يصافح واحدة منهن بيمينه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية ﴿ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ﴾ [الممتحنة: 12]، قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها"[5].
ولقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مليئة بالجد وتحمل المسؤولية منذ فترة مبكرة، فرعى الغنم، وعمل بالتجارة، وجد وكافح، ولم يكن عالة على أحد، فكان في قومه مثالاً للرجل المجد المثابر، وقبل نزول الوحي عليه حُبب إليه الخلاء، فكان يمكث يتحنث في غار حراء؛ يتعبد الليالي ذوات العدد، وبعد أن كلَّفه الله بالرسالة زادت أحماله، وكثرت أشغاله، وعظمت مسؤولياته، وتضاعفت همومه وأماناته، وظل في عمل دؤوب لنشر الإسلام، حتى لقي الله..
فمتى كان يُفرُغ للاستغراق في قضاء الشهوات المحرمة - حاشاه - صلى الله عليه وسلم - وكيف حظي بآلاف الأتباع من المسلمين في عصره - لو كان كما يفتري المستشرقون -؟ كيف كان يحظى بالأتباع الكثيرين لو كان قبيح السيرة، غير مستقيم السلوك - حاشاه صلى الله عليه وسلم -؟!.
إن كتب السيرة والتاريخ ليس فيها ما يؤيد ظن أولئك القوم السيئ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مليئة بآيات العظمة والشموخ، والنبل والطهارة، التي لم تتوفر لأحد في الوجود.
فهل عميت أبصار المستشرقين عن رؤية ذلك الحق وقراءته؟!.
أم انطمست بصائرهم عن تدبره؟!.
أم أبت قلوبهم إلا جحوده وإنكاره؟!.
[1] الفرنسي السافل في الجامعة الأمريكية، مقال بجريدة للشعب، مرجع سابق.
[2] السابق.
[3] السابق، ص 125.
[4] السيرة النبوية 1 /197 - 198.
[5] رواه البخاري في ك الأحكام، ب بيعة النساء، فتح الباري 13 /216، رقم 7214، وفي ك التفسير، تفسير سورة الممتحنة، ب إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات، فتح الباري 8 /504 - 505، رقم 4891، وأحمد في المسند 7 /220، رقم 24672.