زلزال تركيا وسوريا .. رسائل إيمانية وواجبات اجتماعية
رابطة علماء أهل السنةفي فجر يوم الإثنين 6 قبراير 2023م الموافق 15 رجب الحرام 1444هـ اهتزت الأرض هزا وزُلزلت زلزالا مروعا، بلغ 7.8 بمقياس رختر، راح ضحيته الآلاف من البشر، والآلاف من الجرحى، والآلاف من المباني والمنشآت والممتلكات، وتابع العالم على الشاشات والوسائل المعاصرة من المشاهد والمواقف والحوادث ما يعبر عن نكبة كبرى وكارثة عظمى، لا يتحمل الإنسان أن يتابعها، ولا يملك دموعه نحوها.
رسائل إيمانية
وأمام هذا الحدث الجلل والمصاب الأليم لابد لنا أن نقف وقفات إيمانية، ونتلمس الرسائل التي يريد الله تعالى أن يبلغها لنا، نحاول قراءتها على النحو الآتي:
أولا: طلاقة القدرة الإلهية وبيان العظمة الربانية، وقد تمثلت في أن الله تعالى أنشأ هذا الكون على قوانين، وجعل في الأرض جبالا هي الأوتاد والرواسي حتى لا تهتز الأرض ولا تميد بنا، وهكذا، ومع هذا فالله تعالت قدرته يخرق هذا النظام بأفعال منه مباشرة في صورة من صور قهره على العباد وطلاقة سلطانه على الخلق؛ حتى يلفت الناس إلى أن هناك إلها قادرا عظيما لا تتوقف حادثات الكون على نظامه المودع فيه والمخلوق عليه، ومن هنا يلفت الله تعالى نظر الناس من الكون إلى المكون، ومن الخلق إلى الخالق، ومن التدابير إلى المدبر: ﴿یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد ٢]. ومن ناحية أخرى يستشعر الإنسان حجمه الحقيقي وضعفه الواضح وحاجته إلى قدرة مطلقة وولي أكبر ﴿وَمَاۤ أَنتُم بِمُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ﴾ [العنكبوت ٢٢].
ثانيا: تذكير الناس بيوم الزلزلة الكبرى، فهذا زلزلال دنيوي، وزلزلة صغرى، فكيف بالزلزلة الكبرى التي قال الله عنها: ﴿إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا ١ وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا ٢ وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا ٣ یَوۡمَىِٕذࣲ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا ٤ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا ٥ یَوۡمَىِٕذࣲ یَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتࣰا لِّیُرَوۡا۟ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ٦ فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ ٧ وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة ١-٨]. وزلزلت يعني تحركت من الأسفل لتُخرج ما فيها ومن فيها، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الْحَجُّ: ١] وَكَقَوْلِهِ ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ [الِانْشِقَاقِ: ٣، ٤] . فهذا تذكير مبين بهذا الزلزال الكبير، والقيام بالاستعداد له والعمل من أجله.
ثالثا: التنبيه والتخويف والعطف والتأديب؛ فالله تعالى يرسل هذه الآيات الكبيرة من أجل تخويف الناس، وردع العصاة، وإقلاع الظالمين والطغاة عن ظلمهم وطغيانهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا﴾ [الإسراء ٥٩]. قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: “لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة للإيمان الذي لا يحصل إلا بها، بل المقصود منها التخويف والترهيب ليرتدعوا عن ما هم عليه”، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات. والحوادث لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك”. اهـ. وقال ابن القيم: “ومن تأثير معاصي الله في الأرض، ما يحل بها من الخسف والزلازل”ا.هـ؛ ولهذا أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن أبي مسعود عقبة بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بهِما عِبادَهُ، وإنّهُما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النّاسِ، فإذا رَأَيْتُمْ مِنها شيئًا فَصَلُّوا، وادْعُوا اللهَ حتّى يُكْشَفَ ما بكُمْ”.
رابعا: إرادة الخير بالعباد، من خلال رجوعهم إلى الله ودعائهم له وتضرعهم إليه، كما في الحديث السابق: “فإذا رَأَيْتُمْ مِنها شيئًا فَصَلُّوا، وادْعُوا اللهَ حتّى يُكْشَفَ ما بكُمْ”، وكما في قول الله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي – كما قال السعدي-: “بالفقر والمرض والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم، لعلهم يتضرعون إلينا، ويلجأون عند الشدة إلينا”ا.هـ؛ فيُعلنون الرجوع إلى الله، ويُحدثون التوبة، وفي عهد عمر – رضي الله عنه – زلزلت المدينة، فقال: “يا أيها الناس؛ ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا”. وكتب سيدنا عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – إلى الأمصار: “أما بعد؛ فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد..”. وفي هذا من الخير الكثير رغم ما في هذه الزلازل ونحوها من خسائر كبرى ومفقودات فادحة، لكنها تقود إلى تغيير جماعي، وتنبيه أممي ﴿هُدࣰى وَذِكۡرَىٰ لِأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ [غافر ٥٤].
خامسا: تربية المسلمين على أن لله تعالى مكرًا، وأن هذا المكر لا يؤمن، قال تعالى:﴿أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأعراف ٩٩]، وهذا يجعل نفس المؤمن أبدا على حذر وترقب، ويجمع همته على عمل الخير وخير العمل، غير متلفت عن منهج الله، ولا معرض عن رسالته، مقبلا على العمل لها والجهاد في سبيلها، ولا يطمئن على ما معه من إيمان أو عمل، بل يظل في حالة من الوجل والخوف أن يُبتلى ببلاء يَسلب منه هذا الإيمانَ ويضيع منه هذا العمل؛ ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم – وهو من هو! -: “يا مُصرِّفَ القلوبِ ثبِّتْ قلْبِي على طاعتِكَ”، وكذلك: “يا مقلِّبَ القُلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ”، والصحابة الذين بُشروا بالجنة ازداد خوفُهم وما ازداد أمنهم، فهذا أبو بكر الصديق يقول: “لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدامي في الجنة”. وقالوا لـ عثمان: متى الراحة؟ قال: “عندما تصير الرجل اليسرى بجوار اليمنى داخل عتبة الجنة. فهذه هي الراحة، وبغير هذا لا توجد راحة”.
واجبات اجتماعية
هذه الرسائل الإيمانية إذا تحققنا بها وقمنا بمقتضاها فهي التي ستقودنا إلى القيام بواجباتنا الاجتماعية خير قيام، والتي نشير إلى بعضها في السطور الآتية:
أولا: واجب العلماء والدعاة، وهو الواجب الذي ينبغي أن يتصدر، وأن يكون رائد الناس في حركتهم ببيان الرسائل الإيمانية من هذه الأحداث والكوارث حفظا لإيمان الناس بربهم واليوم الآخر، وببيان الواجبات الشرعية الاجتماعية نحو المنكوبين، فما تزال الأمة تُقدّر علماءها وتنتظر بيانهم، وترجع إليهم لتعرف ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وهذه مسئولية كبيرة سيُسألون عنها أمام الله تعالى.
ثانيا: القيام بالواجب الفردي، ويتمثل في الإسراع بالنجدة والانضمام الطوعي لقوافل الإنقاذ مستشعرا قول الله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾ [المائدة ٣٢]، والإنفاق بما يتاح معه من أموال أو طعام أو شراب أو كسوة أو مقومات الإيواء، متحريًا في ذلك الجهات الموثوقة، وبالحض على فعل هذا كله إن لم يتمكن منه، وهذه المهمات الثلاث لا تتعارض أو تتراتب، وإنما يمكن للفرد أن يقوم بها جميعا.
ثالثا: القيام بالواجب “المؤسساتي” والجمعياتي” الخيري، وهو منوط بالجمعيات الخيرية والمؤسسات الإغاثية التي لا يجوز لها أن تتأخر عن النجدة وتقديم يد العون الإغاثية، وهو واجب لو تعلمون عظيم، عظيم الأثر كبير النتائج، وله دور كبير في تخفيف الآثار السلبية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
رابعا: واجب المجتمع المدني، وهو ما يتعلق بمؤسسات هذا المجتمع ومرافقه العامة أو الخاصة، وبخاصة الأماكن التي يمكن أن تفتح بابها للإيواء والإطعام، مثل الفنادق والمدارس والمطاعم ومن يملكون مقومات التدفئة والإيواء، كل هذا يجب أن يتحرك ويتيح ما من الله به عليه لإخوانه، وليكن على يقين من أن الله سيعوضه أضعافا مضاعفة ويبارك فيه ويخلف عليه ﴿وَمَاۤ أَنفَقۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَهُوَ یُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ﴾ [سبأ ٣٩].
خامسا: الواجب الأممي، وهو ما يتعلق بالأمة كلها، بحكوماتها وشعوبها، أن تتضامن وتتداعى إلى الكوارث والمصائب، ف ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ﴾ [الحجرات ١٠]، و “المسلِمونَ تَكافأُ دماؤُهُم ويَسعى بذمَّتِهِم أدناهُم وهُم يدٌ على مَن سِواهُم”. [أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد حسن]، و”المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلمُهُ ولا يسلمُهُ، ومن كانَ في حاجةِ أخيهِ كانَ اللهُ في حاجتِهِ، ومن فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن سترَ مسلمًا سترَهُ اللهُ يومَ القيامةِ” [أخرجه البخاري ومسلم]. يضاف لهذا المؤسسات الدولية الإنسانية التي نشأت من أجل إغاثة الناس كل الناس.
تلك عشرة كاملة، في الرسائل وفي الواجبات، وهذا أوان التضامن والتكافل والتداعي وتقديم ما يمكن تقديمه ﴿فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُوا۟ وَأَطِیعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَیۡرࣰا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن ١٦] ، وليس أوانَ التقريع للمصابين والمكلومين، ورحم الله امرأ أرى الله من نفسه خيرا، سواء بالكتابة والبيان أو التطوع أو تقديم يد العون بأي معونة، “والراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى”، رحم الله الضحايا، وشفى الجرحى، وصبَّر أهل البلاء وعافاهم.