الأحد 22 ديسمبر 2024 08:53 صـ 20 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    إطلاق لفظ (الشهيد) على من مات مسلما في الحرب بين المنع والجواز

    رابطة علماء أهل السنة

    من مات مجاهدا في حرب بين المسلمين وغيرهم؛ هل يجوز وصفه بأنه شهيد؟ أم أن هذا يعدّ قولا على الله بغير علم؟ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل وأذكره على هذا النحو:

    أولا: إطلاق وصف الشهادة مقيدا (من فعل كذا فهو شهيد):

    وهذا جائز لا مانع من إطلاقه، كأن يقال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن ماتت في نفاسها فهي شهيدة، ومن مات في حادث سيارة فهو شهيد؛ كل ذلك جائز إطلاقه لأمرين:

    1. أن النصوص جاءت بهذا، سواء كان ذلك لمن مات في ميدان المعركة (شهيد الدنيا والآخرة) أم في غيرها (شهيد الآخرة)، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ: «إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ»، قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ...» وروى أحمد عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".
    2. أنه إطلاق على التعميم لا التعيين، يعني أننا لم نذكر واحدا بعينه أو باسمه.

    ثانيا: إطلاق وصف الشهادة تعيينا (فلان شهيد):

    أما أن يطلق لفظ (الشهيد) تعيينا؛ كأن يقال: (فلان شهيد)، فهناك أقوال في هذه المسألة:

    القول الأول: القول بالحرمة، وممن قال بذلك البخاري، حيث بوّب في صحيحه قال: (بَابُ لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيد)، وقد استشهد البخاري بحديثين:

    1. الأول: جاء مختصرا وموقوفا وهو: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ»، وهو موصول بتمامه في موضع آخر: عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ، بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».
    2. الثاني: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التَقَى هُوَ وَالمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».

    ووجه الدلالة أن الله أعلم بمن يجاهد في سبيله؛ فكيف ندعي علمنا بذلك فنقول (فلان شهيد)؟ ولعل السبب في المنع هو كون القول بالشهادة ضمان لدخول الجنة، وهذا لا يقول به أحد دون دليل من كتاب أو سنة.

    القول الثاني: تقييد لفظ (الشهيد) كأن يقال: (الشهيد بإذن الله):

    وعليه فقد ذهب البعض إلى تقييده، كأن يقال: الشهيد إن شاء الله، أو الشهيد بإذن الله، أو نحسبه كذلك، وربما يستشهد هنا بما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ». فلفظة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) قد يستدل بها على ردّ الأمر إلى الله تعالى.

    الراجح جواز إطلاق لفظ (الشهيد) دون تقييد:

    والذي أراه راجحا هو جواز إطلاق الشهيد دون تقييد وهذا لما يلي:

    1. ما نقل عن السلف في ذلك: وقد ذكر ذلك ابن حجر فقال: ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب (فتح الباري لابن حجر (6/ 90).
    2. القول بالشهادة لا يعني الجزم بالجنة، فكم من أناس نشهد لهم بالإسلام وهم منافقون يعادون الإسلام ويكرهونه؛ بل ويحاربونه، فنحن نحكم بالظاهر والله أعلم بالباطن.
    3. الشهادة ليست حكما بالقبول وإنما وصف لما قام به المسلم: وهذا معروف عند الناس، فمن حج نقول: هذا حاج، ومن صام نقول: هذا مصلي، ومن حفظ القرآن نقول هذا حافظ.... وهكذا. والأمر كما قال ربنا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81].
    4. الظاهر يكفينا: إذ يكفي في المسلم أن يقول (لا إله إلا الله محمد رسول) فيكون ظاهره لنا الإسلام، وهو مطالب لا شك بمقتضيات هذه الكلمة، ولكن نحن لنا الظاهر فنحكم على من قال ذلك بالإسلام.
    5. البخاري محدث فقيه لكنه بشر: والحق أننا أمام قول لإمام بارع في صنعته الحديثية وتبويباته الفقهية، وقد شهد له القاضي والداني بذلك، لكنه وإن علا كعبه في الحديث وفقه، فهو بشر يصيب ويخطئ، ولا شك أن المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره،
    6. مخالفة شراح الحديث للبخاري: وقد خالف البخاري في هذا عدد من العلماء، ولم يسّلموا له بما ذهب إليه، فمنهم من اعتبر المنهي عنه هو القول على سبيل الجزم والقطع، ومنهم من اعتبر الأحاديث التي استشهد بها البخاري مخالفة للتبويب، ومنهم من اعتبر هذه الترجمة ترجمة غريبة، وهذه أقوال بعض العلماء:
      1. قال ابن حجر: وقد فسّر ابن حجر ذلك بأنه إن قيل على سبيل الجزم والقطع، يقول ابن حجر: أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنه أشار -أي البخاري- إلى حديث عمر أنه خطب فقال: وَأُخْرَى تَقُولُونَهَا لِبَعْضِ مَنْ يُقْتَلُ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا، أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَرَ دُفَّ رَاحِلَتِهِ أَوْ عَجُزَهَا ذَهَبًا، وَقَامَ يَلْتَمِسُ التِّجَارَةَ فَلَا تَقُولُوا ذَاكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ » (فتح الباري لابن حجر (6/ 90). وحديث عمر رواه الحميدي في مسنده (1/ 160).َ
      2. قال المهلب: في هذا الحديث ضد ما ترجم له البخاري، أنه لا يقال: فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء وإنما فيه ضدها والمعنى الذي ترجم به قولهم: ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة في نفوسهم بغنائه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت (شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 92).
      3. قال السندي: قوله: (باب لا يقول فلان شهيد) أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فلا بأس، وإلا يشكل إجراء أحكام الدنيا. (حاشية السندي على صحيح البخاري (2/ 67).
      4. قال الطاهر عاشور: هذا تبويب غريب، فإن إطلاق اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابت شرعاً، ومطروق على ألسنة السلف فمن بعدهم (النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح (118.

    شروط مهمة على من يقال له: (شهيد):

    لكن ينبغي أن ندرك أن من يطلق عليه لفظ شهيد ينبغي أن تتوفر فيه شروط وهي:

    1. أن يكون القتال بين المسلمين وغير المسلمين: فلو كان القتال في دائرة غير هذه الدائرة فلا يعد القتيل شهيدا (شهيد الدنيا والآخرة)، ولذلك فإن القتال بين المسلمين الذي قال الله عنه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]؛ من مات في هذا القتال لا يعدّ شهيدا (شهيد الدنيا والآخرة).
    2. أن تكون نية المرء لله (الإخلاص): روى الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
    3. أن يقاتل المرء مقبلا غير مدبر: روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ».
    4. أن يكون موته في المعركة لا بعدها: فلو جرح أو أصيب ثم مات بعد المعركة فلا يعدّ شهيد دنيا وآخرة، وإن كان له من أجر الجهاد ما له، روى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ عَذْبَةٌ، قَالَ: فَأَعْجَبَهُ يَعْنِي طِيبَ الشِّعْبِ فَقَالَ: لَوْ أَقَمْتُ هَاهُنَا وَخَلَوْتُ ثُمَّ قَالَ: لَا، حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " مُقَامُ أَحَدِكُمْ - يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللهِ - خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ فِي أَهْلِهِ سِتِّينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ، وَتَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ".

    شهيد مات مسلما منع جواز إطلاق لفظ

    مقالات