ليلة القدر وآمال أمتنا
رابطة علماء أهل السنةيغيب عن أذهان الكثيرين أنّ هذه الليلة ليست فقط ظرفا دينيا شعائريا، وأنّها قبل كل شيء ظاهرة كونية وثيقة الصلة بالإنسان ومصيره ودوره في الحياة، وتكفي النظرة العَجْلَى في الآيات لتجلية هذه الحقيقة الكبيرة: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}. فكلّ أمر من أقدار العباد يقع في العام كلّه يُقْضَى ويُبْرَمُ في هذه الليلة المباركة ليلة القدر، وتنزل به الملائكة من اللوح المحفوظ إلى حيث يكون بين أيدي السفرة الكرام البررة في السماء الدنيا، التي هي أقرب نظام كونيّ سماويّ من مسكن الإنسان في هذا الكون الرحيب.
هذه العملية الكبيرة لا تتوقف فقط على مجرد أخذ نسخة من “أمّ الكتاب” تخص السَّنَةَ التي تقف ليلة القدر على رأسها، ثم لصقها على صفحة بيت العزة بالسماء الدنيا، وإنّما تتخطاه إلى ما هو أبعد من ذلك من أوامر الرب تبارك وتعالى بإثبات ما يشاء ومحو ما يريد، ويبقى أصل القدر في “أمّ الكتاب”، وفقًا للحكمة الإلهية: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. هكذا يصنع الربّ تبارك وتعالى؛ إذْ هو سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، وما القضاء والقدر إلا النظام الذي خلق الله عليه الكون، وربط به بين الأسباب والمسببات والنتائج والمقدمات وفق سنن ونواميس ربانية لا تتبدل.
وإنْ أسخط على بعض السابقين أو اللاحقين شيءٌ فإنّما هو ذلك الترف الفكريّ الذي دعاهم إلى سحب المسائل السمعية إلى ساحات الجدل الكلاميّ؛ لتتحول عقيدة القضاء والقدر من كونها طاقة دافعة إلى مادة كلامية باهتة، فرَّقت الأمة وشَتَّتْ تفكيرها، وكما عبر هوفمان: “إخضاع القضايا الميتافيزيقية لمنهج تفسير منطقي لن ينتهي بنا إلا إلى نتائج لا منطقية.. هؤلاء الرواد من الفلاسفة لم يبرهنوا إلا على مسألة واحدة فقط، وهي أنّنا لا نستطيع من خلال منطقنا الإنسانيّ أن نصل إلى إدراك حقيقة المجهول بشكل يقينيّ.. لولا الوحي لظللنا عميانًا”.
والقَدَرُ شجرة عظيمة توارت خلف أستار الغيب، ظهر لنا منها غصنان، أحدهما يدعونا للتسليم بالهيمنة الإلهية وما يترتب عليه من التوكل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، والثاني: يقرر حرية الإنسان وإناطة التكليف بإرادته: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}، أمّا العلاقة بين الفرعين وما وراء ذلك من أسرار فلا علم للإنسان به، وما العيب في ذلك؟ ألسنا ندرك من آثار نظرية النسبية تفاوت الأزمنة بين الأجرام بينما لا يفهم النظرية إلا أينشتاين وعدد ضئيل من علماء الطبيعة؟! ولله المثل الأعلى طبعا، فينبغي الاكتفاء بذلك والمضي قدما مع الفوائد العملية.
ومن أعجب ما تعرض له القرآن الكريم من تعللات الخلق ذلك الذي يتعلل بالقدر ليستمر على حال العصيان والكفران، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ}، وعلى نفس المنوال ينسج الهابطون: لولا أنّ الله قدر لي المعصية ما عصيت!! إذن: فلماذا لا تتوب ويكون الله قد قدر لك التوبة؟! ما هذا التحكم في تفسير القدر؟ وما هذا التبرير للفشل والقعود والتخلف والركود؟ إنّنا بحاجة إلى أن نفهم القدر على طريقة الشابِّي:
ولم يكن مقصود الشاعر أنّ القدر مُجْبَرٌ على طاعة الإنسان، وقد فَهِمْتُ عنه ما فهمه البسطاء دون تعقيد، وهو أنّ القدر قانون إلهيّ يبني النتائج على أسباب ومقدمات؛ فإن حققنا الأسباب ترتبت عليها النتائج بقدر الله تعالى، والله تعالى يقدر الشيء منوطا بأسبابه، ويمحو ما يشاء ويثبت، بينما المعادلة الكبيرة التي لا نستطيع التوصل إلى حل رموزها ثابتة في أم الكتاب، لا شأن لنا بها، وإنّما شأننا أن نطلب القدر المأمول، وذلك بأمرين: الدعاء والعزم، وهذا فهمٌ تساعد عليه آيات كثيرة، منها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، فمن دعا ربه بالهداية ثم عزم عليها وجاهد نفسه للوصول إليها فإنّ الله سيهديه، وكل ذلك بقدر الله.
وهكذا إذا دعونا الله لأنفسنا ولأمتنا بالنجاح والفلاح والنصر والتمكين والسلامة والعافية والخلاص من القهر والفكاك من الأسر، مع العزم والسعي الجاد؛ فسوف يتحقق لنا ما نريد بقدر الله تعالى، وهذا هو الدور المنوط بنا في ليلة القدر، وقد أدركنا من هذا الدور شقّه السهل وهو الدعاء، لكنّنا لم ندرك الشقّ الآخر وهو العزم على السير مع الأسباب التي تفضي إلى القدر المأمول، فعلى المسلم أن يدرك أنّ ليلة القدر تُسَجَّل فيها أقدار العام كله، ويدرك أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، فيجتهد في العبادة والدعاء، بنفسيَّة العازم على النهوض والصعود، وقد وضع لنفسه خطة من الأسباب المفضية إلى ما يريد؛ لعل الله يطلع منه على عزم أكيد؛ فيقدر له الخير الذي يأمله ويرجوه.
إنّنا وأمتَنا بحاجة إلى خير ليلة القدر، إنَّنا نعيش حالة من الضياع غير مسبوقة، فلا قيادة ولا رؤية ولا وحدة ولا مشروع، شبابنا بين أسير وشهيد ومطارد، وحكامنا تحكموا في رقابنا، وتحكمت في رقابهم قبضة المحتل الغاصب الذي تبين لنا بيقين أنَّه لم يخرج بَعْدُ من بلادنا، ولا عُدَّة لدينا تقوى على إيقاف الاستبداد والظلم والقهر، ولا حيلة بأيدينا للخلاص من الأسر والفكاك من القيد، فإن أحسَنَّا استثمار ليلة القدر كانت في حقنا خيرا من ألف شهر؛ لما يعظم الله فيها للعباد من الأجر على العبادة والدعاء وعلى العزم معا، إضافة إلى كونها نقطة انطلاق إلى التجديد والعمل الخلاق، رزقنا الله وإياكم خيرها.