مشاجرة في بطن الحوت!
الأستاذ الدكتور جمال عبد الستار رئيس الجامعة العالمية للتجديد وأستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة رابطة علماء أهل السنةتعددت رؤية علماء التفسير في تأويل ما حدث مع يونس عليه السلام، واخترت منها أسلمها، وهو أن قومه قد استهانوا بعقوبة الله تعالى، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فغضب يونس عليه السلام غضبًا شديدًا، ويئس من استقامتهم، فقرر أن يترك ميدان دعوته وأن يهجر موطن رسالته، فرسم لنفسه طريقًا وفق رؤيته لا وفق مهمته. نعم إنها رؤية المُغضَب، التي تحتاج غالبًا إلى تأخير القرار حتى يسكن الغضب، ألم تر إلى قول الله تعالى: {ولمّا سكتَ عن موسى الغضبُ أخذَ الألواحَ…} (الأعراف: 154).
فجعل الله -سبحانه- موقف يونس عليه السلام عبرة للسالكين وعظة للنبيّين، حتى قال الله -تعالى- لنبيّه ولمن سلك نهجه إلى يوم الدين: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ…} (القلم: 48).
فلم تكن قصة يونس عليه السلام واقعة تاريخية جرت، لكنها سنّة ربانية مضت {ولا تكن كصاحبِ الحوتِ} إنه تحذير لكل منتسب للدعوة فردًا كان أو حزبًا أو جماعة أو تيارًا أو نظامًا، مهما بلغ شأوًا، أوزاد أتباعه عددًا، ومهما كان ماضيه مشرقًا، أوتاريخه مزهرًا، أوأثره باهرًا.
فلما ركب سفينة رؤيته وبحر منهجيته، بمعزل عن مصدر التكليف وميدان العز والتشريف، قضى عليه الله تعالى بأن يٌلقى من السفينة، وهكذا على سفينة الدعوة دائمًا أن تتخلص من أثقالها عند اشتداد العواصف مهما كانت الإجراءات مؤلمة، حماية لمسيرتها، واستبقاءً لأهلها، وليس هناك أثقل على سفينة الدعوة من أصحاب النفوس المدخولة والقلوب القاسية، وذوي المصالح والمنافع، حاشا سيدنا يونس عليه السلام، فللأنبياء خصوصيتهم ومكانتهم وعصمتهم.
وسفينة النجاة واحدة، تتمثل في حمل الدعوة إلى آخر كلمة، والسعي بها الى آخر لحظة، والاستمساك بمبادئها إلى آخر رجل على وجه الأرض.
قضى الله على يونس عليه السلام أن يلتقمه الحوت، حيث الظلمة والضيق والموت، ليجد من ترك الألواح نفسه في بطن الحوت، حوت القهر والشدة، حوت الضيق والظلمة، حوت غياب المنطق وضياع الأسباب وانعدام الرؤية.
بطن الحوت، حيث يونس عليه السلام، وكل يونس، تيارًا كان أم رمزًا، نظامًا، كان أم منظومة، أعدادًا ضخمة كانت أم صغيرة، فهذا مآل من ترك ميدان جهاده، وبحث عن سفينة للنجاة وفق رؤيته الخاصة ومراده، فمن ألقى الألواح لا يتوقع أن يجد في بطن الحوت الفلاح أو النجاح.
في بطن الحوت لهيب يحرق الجميع، وضيق يخنق الجميع، وشدة تعصف بالجميع.
بطن الحوت حيث لا متسع لتنازع ينشب على مكانة أو مقام، لا مجال للشكوى من شدة الضيق أو الزحام، لا مجال للتنظير ومعسول الكلام، لا مجال للبحث عن الرفاهية وإضاعة الزمان. فليس ثمة تنازع أو خصام، فأزمتك ليست في أخيك المحشور معك، فأنتما في أحشاء الحوت سواء!
إنما أزمتك في منهجية قيادتك، واعوجاج مسلكك، وواجب بطن الحوت يختلف عن واسع الأيام، وفُسحة المكان، وكثرة الأحباب والخلان.
ليس الوقت في بطن الحوت جزءًا من العلاج، بل ربما يوطن للبلاء، ويستجلب الشقاء، ليستمر البقاء في لهيب محنته إلى يوم الحشر واللقاء {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسبِّحينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات: 143-144).
في بطن الحوت لا مجال للتسلية بحكايات الماضي التليد، أو التاريخ العريق، كما لا ينبغي أن يقوم أحد بمحاولة تشريع البقاء في الأحشاء، أو ادعاء الصمود فيها بلا حياء، أو تجميل الهلاك فيها بزعم الاصطفاء!
هنالك في بطن الحوت لافتة مكتوب عليها: من ترك حمل رسالة مولاه ضيّق الله عليه دنياه، وأسكنه أحشاء حوت المقصرين، فأُلقِي فيها وهم مليم، مهما كان مقامه وعظم شأنه {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ…} أن لن نضيّق عليه.
باب الخروج ومفتاح الفرج
أقام الله من يونس عليه السلام نموذجًا يُقتدى، ومنهجية تُحتذى، حيث أيقن بخطأ مسلكه وقلة حيلته، فلم ينشغل بالشكوى من أصحاب السفينة الذين ألقوه، ولا ظلمة البحر وشدة أمواجه، ولا ضيق المقام في بطن الحوت ولهيب أحشائه، لكنه سارع إلى الإمساك بحبل النجاة الذي لا ينقطع مدده، ومصدر العز الذي لا يخيب مرتجيه، ومنبع النور الذي لا تعتريه ظلمة.
سرعان ما جدد البيعة مع ربه توحيدًا، وأقر بذنبه تقصيرًا، ونادى ربه مستغيثًا مستكينًا، فكانت الإجابة وما زالت، وكان الرب الرحيم وما زال مستجيبًا لمن سلك للنجاة سبيلها، وعرف للمرحلة واجباتها، والتفت إلى نفسه فطهرها من رجس أهوائها، وانطلق مناديًا ربه قولًا وعملًا {لا إلهَ إلّا أنتَ سبحانَكَ إنِّي كنتُ من الظَّالمين} لتأتيه الإجابة قاطعة {فاستجبْنا لهُ ونجّيناهُ من الغمِّ وكذلكَ نُنجي المؤمنين} (الأنبياء: 88).
في بطن الحوت لا مجال للكبر والتعالي، وإنما هو الإخبات والافتقار وكامل المذلة بين يديه سبحانه.
وفي بطن الحوت لا مجال لتزكية النفس وخوف ملامة الناس، بل هو كامل الإقرار بالتقصير وظلم النفس، والمبادرة إلى معالجة الأخطاء في وضوح وجلاء، فالإصرار على عدم المراجعة تزكية للنفس خطيرة تؤخّر النصر، وتطيل عمر الظلم.
في بطن الحوت لا توجد صلاحيات ومصالح، ولا مناصب ومنافع، بل تسبيح واستغفار، والندم والإخبات، والأخذ بالمتاح من الوسائل والأسباب.
فثمة واجبان ليس لهما ثالث: اعتراف بكامل التقصير، وصدق التجاء إلى الرب القدير {لا إلهَ إلّا أنت سبحانَكَ إنِّي كنتُ من الظَّالمين}.
فلا تجعل من أصحاب السفينة عدوًّا تتربّص للانتقام منه، ولا تُكثر من اللوم على قومك فلربما استقاموا في غيبتك، ولا تستبعد الهلاك فلست نبيًّا معصومًا، بل جدد مع الله بيعتك، فليس ثمة غيره ينجيك من الغم.
فقد خرج يونس عليه السلام مستوعبًا الدرس، فنال مقام التشريف والاجتباء {فاجتباهُ ربُّهُ فجعلَهُ من الصالحين} ونال مقام التكريم حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوني على يونسَ بنِ متّى” وفي رواية: “مَنْ قالَ أنا خيرٌ مِنْ يونسَ بنِ متّى فقد كذب”.
وسيُخرج الله من بطن الحوت بفضله من صدقت توبتهم، واستقامت سيرتهم وتطهرت نفوسهم، وسيُنبت لهم -سبحانه- من أرزاقه ماتبرأ به أجسادهم، وتشتد به أعوادهم، وتُستر به عوراتهم.
وتظل سنّة الله في خلقة قائمة، فإما ألواح يعقبها اجتباء، وإما انحراف يعقبه إغراق وابتلاء.