الجمعة 22 نوفمبر 2024 10:30 صـ 20 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    نصوص الشرع ... بين التعبد والتعليل

    رابطة علماء أهل السنة

    إن نصوص الشرع جاءت لتستوعب الزمان والمكان، وترسم لهذه الأمة معالم التشريع وطرق السير.

    و إن الجمود على المنصوص هو بنفس المرتبة مع تجاوز النصوص.

    والعقل الفقهي هو الذي يثور النصوص ليستخرج مكنوناتها و أسرارها، وهو ملخصه سيدنا عمر رضي الله عنه لسيدنا في رسالته لسيدنا ابي موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها...).

    وهو ما جعل العلامة القرافي يحذر من الجمود على المسطور في كتب الفقهاء.

    قال في الفروق :" ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك و اسأله عن عرف بلده ، و أجره عليه و أفته به دون عرف بلدك و المقرر في كتبك ، فهذا هو الحق الواضح ، و الجمود على المنقولات أبدا : ضلال في الدين و جهل بمقاصد علماء المسلمين و السلف الماضين ... "

    وعلى نفس النفس سبك الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين عبارته الرشيقة فقال :

    " و هذا محض الفقه و من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم و عوائدهم و أزمنتهم و أمكنتهم و أحوالهم و قرائن أحوالهم فقد ضل و أضل ، و كانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم و عوائدهم و أزمنتهم و طبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم ، بل هذا الطبيب الجاهل و هذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس و أبدانهم و الله المستعان "

    #وهناك فرق بين الجرأة على نصوص الشرع ونصوص الفقهاء، وبين محاولة درك مقاصد النص الشرعي، ومقاصد استنباطات الفقهاء.

    ونحن نعلم أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

    و إن دعوى أن النصوص التعبدية غير معللة، وأننا لا ندرك عللها، ولا أسرارها هو من باب التجوز فقط، ومن باب التقريب والتغليب، وإعطاء الأقل حكم الأكثري.

    وإلا ما من حكم شرعي إلا وله علة من قبل الشارع عند تشريعها.

    وأقل ما تنزل اليه هذه العلة أن تكون في صور حكم تشريعية.

    =======#وقفة للتأمل :

    فعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

    نعم هذا الحديث يعد أصلا من أصول البدع وفي بابها.

    ولكن عندما نفقه هذا الحديث من حيث ألفاظه ونقف على كلمة (منه)، وفي الرواية الثانية (ليس عليه أمرنا).

    ندرك أن المحظور في الاستنباط هو ألا يكون( منه) .

    أو ( ليس على) منهج ومهيع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وعليه: كان نظر السادة الأحناف أكثر واقعية في التأصيل، وهذا عندما قرروا : أن كل حكم شرعي كان معقول المعنى جاز تعليله و القياس عليه.

    وهذا النهج كان بناء على العقلية التقعيدية للقواعد الاصولية عندهم ، والتي كان فيها الانطلاق من الفروع الفقهية الى تحقيق القواعد الاصولية.

    وهذا ما قصدناه بواقعية التأصيل ورحم الله الإمام الجويني عندما قال في برهانه و نهاية مطلبه ( الفروع محنة الأصول) اي أن الفروع تمتحن الأصول، وأنه كلما انضبطت الأصول انضبطت الفروع.

    فليس كل مسائل العبادات غير معللة، بل هي على تفاوت، خاصة فيما تعم به البلوى، ويكثر فيه الحرج عند التأمل نجد الشارع قد نصب أمارات دالة على مراعاتها، من غير أن تخل برسوم الشريعة، وتأتي على اركانها بالهدم.

    ومن ذلك وجدنا مسائل في العبادات اوقعت الناس في حرج مع تطور المجتمعات مثل : مسائل تتعلق بالمياه وما يستصحب فيها من مطهرات كيميائية، والصلاة على الكراسي، والاختلاف في المفطرات بالأدوية المستعملة بين المغذية من عدمها، ومن ذلك رؤية الهلال صوما وفطرا بالحساب الفلكي، ومن ذلك اخراج الزكاة بالقيمة أو من عينيها، ومن ذلك توسعة المسعى في الحج، والرمي على المدار... وغيرها من المسائل التعبدية التي لا يتسع لها هذا المقال لسردها.

    ======#خلاصة الكلام:

    أن الفقهاء الحنفية اعطوا لأنفسهم الفسحة من البداية، بأن كل نص كان معقول المعنى جاز تعليله و القياس عليه.

    أما الجمهور رغم انهم تحفظوا في كون المسائل التعبدية غير معللة في الجملة، ولكن عند التحقيق عللوا كثير من المسائل، ولكن من غير توسع.

    إن تعليل النصوص ليسا عيبا، وليس خروج عن النصوص بل هو اطمئنان للنص واستثمار لمعانيه، بما ينفخ الروح في واقعية النص الشرعي.

    ورحم الله الامام العلامة ابن القيم في هذا النص الثمين الذي يكتب بماء الذهب، بل يعد ديباجة مقاصد الأحكام، قال رحمه الله : إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد.

    وهى عدل كلها ٬ ورحمة كلها و مصالح كلها.

    فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور٬ وعن الرحمة إلى ضدها٬ وعن المصلحة إلى المفسدة٬ وعن الحكمة إلى العبث. فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل.

    فالشريعة عدل الله فى عباده٬ ورحمته بين خلقه٬ وظله فى أرضه٬ وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسله أتم دلالة وأصدقها..”

    فاللهم ارشدنا الى ما اختلف فيه من الحق.

    واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    نصوص الشرع بين التعبد والتعليل العقل الفقهي التجمد التطور

    مقالات