الدروشة السياسية ... بين حكمة الشيوخ وحماسة الشباب
الدكتور بلخير طاهري - أستاد الشريعة والقانون بجامعة وهران بالجزائر رابطة علماء أهل السنةقال ابن عقيل الحنبلي : ( السياسة : ما كان الناس فيها أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد و إن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي).
فالعمل السياسي يحتاج الى كياسة وفراسة وحماسة وممارسة ومسؤولية
وإن فن إدارة الصرع يستوجب ألا تجر إلى ميادن لا تعرف شعابها فتتيها فيها، ولا أعماق لا تحسن سباحة فتغرق فيها، ولا مجالس لا تعرف علية القوم فيها فتأذيها !
وعليه فإن مبدأ الشورى شيئ جميل وحصن متين.
ولكن أهل المشورة سماهم أهل الشرع (بأهل الحل والعقد) ، فبيدهم مفاتيح الحل وبيدهم مفاتيح العقد وهم من اهل الأوصاف التي ذكرناها آنفا.(كياسة وفراسة وحماسة وممارسة ومسؤولية)
كان سيدنا علي رضي الله عنه في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر،. وحدثني عمر وصدق عمر... ولا اترك حديث رسول الله لأعرابي بوّال على ساقيه.
إن الثقة فيمن يؤخذ عنه الخبر وليس كل شخص نقله معتبر.
وكان الامام مالك رضي الله عنه يقول : وجدت سبعين محنكا من لو أستغيث بهم الغمام لأغاثوا، ولم آخذ عنهم الحديث لأنهم أهل التقوى والصلاح، وليس بأهل حديث.
علق الشيخ محمد الغزالي فقال : هناك من أرجو دعوته لأنه صالح
ولا أقبل نصيحته لأنه مغفل.
فكما أنه الرماح بنصالها فإن السياسة برجالها، وإن ميدان الممارسة هو أفضل مدرسة تصقل صاحبها وتحنكه في الميدان أفضل من الديوان.
من تشاور؟؟؟؟
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور آحيانا أبا بكر فقط، ومرات معه عمر ومرات معهم عثمان وعلي ومرات المبشرون بالجنة، ومرات أهل بدر فقط و هكذا بحسب المسألة والمقام.
#الموقف الأول : في غزوة بدر
لما أخذ ينادي (أشيروا علي يا قوم... أشيروا علي ياقوم والمهاجرين بجانبه وهو يردد... علم الأنصار أن الخطاب موجه لهم، فقال له سعد كأنك تريدنا يا رسول الله.
والدرس المستفاد: أنه ليس كل عاقل يصلح للمشورة ويستدعى بالضرورة وإنما المسألة اعتبارية.
#الموقف الثاني : في غزة أحد.
قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القيادة العليا من كبار الصحابة القتال في الداخل (حرب الشوراع) وانتهى مجلس الشورى المصغر بهذا القرار وخرج على القواعد بهذه الأوامر.
لكن القواعد لم تستوعب قرار القيادة وثارت عليه وتعالت الأصوات، وقالوا كيف نقاتلهم كالنساء. في بيوتنا بل نخرج لهم رجلا الى رجل، وزادت وتعالت حماسة الشباب، ولا يمكن إلجامها إلا بالعقول الراجحات.
وكان هم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحافظ على وحدة الصف حتى ولو تنازل عن قرار مجلس الشورى، وكان في ذلك مقدما وحدة الصف على ارتكاب الخطأ
وهذا عندما يكون قلب القيادة على أفرادها لا على لوائحها...
والدرس المستفاد انه ليس كل قرار صائب وليس كل قرار يطبق، وشر أهون من شر وخير افضل من خير، والعاقل من يميز بين شر الشرين وخير الخيرين كما قال ابن تيمية رحمه الله.
بيت القصيد :
هناك شيوخ وقادة للأسف الشديد رغم سبقهم وفضلهم الذي لا ينكر لازالوا يفكرون في مجال السياسة بمبدأ المغالبة والسلوك مسلك المقاطعة، فلا هم وصلوا إلى الحكم بمغالبته نظرا لضعفهم وقوة خصمهم، ولا هم نجحوا في المقاطعة بدعوى الإضعاف والإرباك وتصيد فرصة الافتراس ولكن هيهات فكل شيئ فات.
فهذه عقلية متحجرة تقف على رواسب الماضي ونرجسية الصبر من غير إعداد ولا إمداد.
في المقابل شباب متحمس أوهموه من اليوم الأول انكم قادة، وانتم مميزون على غير العادة وأنتم الأولى بالسيادة من أصحاب طول زمن المحاضن والإعادة.
فدلوا الشباب بغرور، وجرؤهم على كل غيور، وأوقدوا فيهم نار الحماسة وقالوا لهم : أنتم المستقبل وجيل النفاسة ومنكم يكون الساسة.
#فهل بشيوخ انهكتهم الضربات على حد تعبير الاستاذ محمد قطب رحمه الله في كتابه واقعنا المعاصر. أم بشباب متساقطين على طريق الدعوة على حد تعبير استاذنا فتحي يكن رحمه الله.
فإن تركيبة بهذا الشكل لا تصلح لا للقيادة ولا للسيادة، ولا أن تقرر في مشروع أمة ضحى من أجلها رجال ونساء ناموا على الحصير والرصيف وأكلوا تمرة ورغيف، وقطعوا المدن والقرى سيرا على الأقدام، وقاسموا رواتبهم على غيرهم إذا رايتهم خلتهم أيتام.
فقد أدوا ما عليهم من أجل أن نصل بهذا المشروع من المؤسس إلى المؤسسات. ومن الديوان إلى الميدان
وكان الشعار الأول ( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) المائدة.
فكان الدخول من باب واحد حتى نتعرف على القوم ومجالس ومشاريع القوم...
لننتقل في المرحلة التي بعدها إلى قوله تعالى (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)يوسف.
فكان لا بد من الدخول من أبواب متفرقة وكل من تخصصه الذي يتقنه لعلنا ندرك كيف يدير القوم شؤونهم... ولكن بشعار (وليتلطف).
ولكن للأسف الشديد (لكنكم قوم تستعجلون) فكان لسان حالنا ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) النحل.
والقوم أصروا على (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)المائدة.
فوقعنا في الإنهاك والإرباك، وضاعت البوصلة وتسلل الطلقاء في زمن الانشقاق، واصبح تكثير السواد بالأنصار هو معيار الانتصار. فتبدد القرار بجيل الأغيار، و اتّهم أهل الشيبة و الثبات ممن يسر الله لهم التقرب والاحتكاك ومعرفة لغة القوم قبل نطق اللسان. بأنهم أهل طمع وخيانة وسلطت عليهم مليشيات الجيل الجديد ممن لا يعرف حرمة لكبير أو خبير، ينافح بقلبه لا بعقله.
فهل بمثل هؤلاء تصنع شورى؟ أم تصنع قراراتها بكولسة قبلية زعموا بتسميتها حملة استباقية لتنوير البقية فيهيئوا القوم قبل الدخول وقد شحنت الأنفس على الخصوم، ويكون الشعار (عنزة حتى ولو طارت)....
وعلى حد تعبير الشاعر :
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى
غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ
غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ
======== وأخيرا :
أقول : أن السياسة هي فن الممكن وهي فن إدارة الصراع ولكن بأخلاق الرجال لا بمسح النعال، و بالمشاريع لا بالشعارات، و بإعطاء البديل لا بالتجريح والبناء على الانقاض.
و الشورى آلية من آليات جمع الرأي والخروج من الخلاف لا لرفع الخلاف.
فالخلاف باق، وكم من قول مرجوح أصبح راجحا وكم من قول شاذ كان بفضله الاستنجاد... وما يعقلها إلا العالمون.
فلا تحجروا واسعا... وكل يأخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر الشريف عليه صلوات ربي في كل وقت وحين.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
========كتبه:
الدكتور بلخير طاهري الإدريسي الحسني.