أمي وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
نجوغو بن مبكي صمب السنغالي رابطة علماء أهل السنةهذه كلمات يسيرة عن أمي وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، تعريفا بغير مجهول وتذكيرا بغير منسي ، وإقامة للدليل على النهار .
ترجمة موجزة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
هي بنت الإمام الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن قحافة، عثمان بن عامر، بن عمرو، بن كعب، بن سعد ، بن تميم ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ...
وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر، بن عبد شمس، بن عتاب ابن أذينة الكنانية.
وهي ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثماني سنين ، وكانت تقول: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين .
وتزوجها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مهاجره بعد وفاة الصديقة خديجة بنت خويلد، وذلك قبل الهجرة ببضعة عشر شهرا، وقيل: بعامين ، ودخل بها في شوال سنة اثنتين، منصرفه عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر، وهي ابنة تسع ، كانت امرأة بيضاء جميلة ، ومن ثم يقال لها: الحميراء .
ولم يتزوج النبي- صلى الله عليه وسلم - بكرا غيرها، ولا أحب امرأة حبها.
توفيت أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها سنة سبع وخمسين ، وقيل ثمان وخمسون .
من فضائل أمنا عائشة ومناقبها رضي الله عنها .
وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة فضائل كثيرة ومناقب عظيمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، مما يدل على كمال إيمانها وعلو منزلتها عند الله تعالى .
وهذه نتف يسيرة ونماذج قليلة من تلك الفضائل والمناقب :
أولا : من القرآن الكريم .
1- أم المؤمنين :
ورد في القرآن الكريم التنويه بفضائل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، والإشارة بمكانتهن ، والتعريف بسبتهن إلى سائر أفراد الأمة الإسلامية ، ولا شك أن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها من أجل أمهات المؤمنين وأعظمهن قدرا ، قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، قال الإمام ابن كثير رحمه الله : " أي : في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي في المختصر، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم".
2- المبرأة من فوق سبع سماوات:
فقد برأها الله تعالى من فوق سبع سماوات مما رمي بها من الإفك والبهتان ، ويا لها من شهادة عظمى من عالم الغيب والشهادة ، من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، فقد سمى الله تعالى التهمة التي قذفها بها المنافقون بالإفك وهي (الكذب الشنيع) ، كما أمر المؤمنين أن يصفوه بالبهتان ولا يصدقونه، قال تعالى{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }، إلى أن ختم الكلام في هذا السياق بقوله تعالى {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } قال القرطبي رحمه الله تعالى " قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمى بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان ".
ثانيا : من السنة النبوية المطهرة .
تضافرت الأحاديث الصحاح في فضائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومناقبها ، بحيث لا يكاد يخلوا منها كتاب من كتب السنة المتعددة وديوان من دواوينها المختلفة ، ولعل فيما يلي بلغة وكفاية لكل له في الدين فهم ودراية .
1- من فضليات نساء العالمين:
عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "، قال ابن بطال "الثريد أزكى الطعام بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي بالفضل على سائر الطعام وكفى بذلك تفضيلا له وشرفًا".
2- بشرى من الله لنبيه
عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه " ، وهذه بشرى من الله تعالى لنبيه عن طريق الوحي بأن عائشة - رضي الله عنها - ستكون زوجا له - صلى الله عليه وسلم - فضارعت بذلك زينب التي زوجها الله لنبي بعد أن طلقها زيد.
3- سلام جبريل عليها
عن أبى سلمة عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها " إن جبريل يقرأ عليك السلام" ، قالت فقلت وعليه السلام ورحمة الله " ، قال النووي رحمه الله " فيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها وفيه استحباب بعث السلام ويجب على الرسول تبليغه".
4- أحب النساء إلى رسول الله
عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته ، فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال " عائشة " فقلت : من الرجال ؟ فقال : " أبوها ... " ، وهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن أحب النساء إليه هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ، وكفاها شرفا ومنزلة أن أكرمها الله بهذه الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
5- زوج النبي في الدنيا والآخرة
عن عبد الله بن زياد الأسدي قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : هي زوجته في الدنيا والآخرة ، يعني عائشة رضي الله عنها ، وهذه الشهادة من الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه مما له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فالإخبار بكونها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا يكون إلا عن سماع من رسول الله ، وإن لم يصرح به رضي الله عنه.
هذه بعض فضائل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - سقتها على عجل وعلقت عليها باختصار خوفا من الإطالة وتجنبا للإسهاب ، ففضائلها ومناقبها – رضي الله عنها واضحة كالشمس في وضح النهار لا يحتاج إلى دليل أو برهان .
جوانب العظمة ومظاهر الكمال
1- صدق الإيمان بالله تعالى
فقد نشأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الإسلام والإيمان ، ولم تعرف قط الجاهلية ولم تتلوث فطرتها النقية بشائبة من كفر بالله أو إشراك ، وكانت رضي الله عنها تسمع القرآن من أبيها أبي بكر ، وتشاهد صلاته وتعبده في البيت ، قالت رضي الله عنها : " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ... " .
ولما كانت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة ، تابعت أحداثها وفهمت مغزاها وغايتها على الرغم من حداثة سنها وقلة تجربتها آنذاك ، وهاجرت مع أهلها مع المهاجرين فرارا بدينها وامتثالا لأمر الله ورسوله.
وهكذا إلى أن انتقلت إلى بيت النبوة الطاهرة ، حيث تشهد الوحي تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، والآيات تتلى في بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، والحكمة النبوية تبث من أرجائها ، فأورثتها كل ذلك إيمانا صادقا في قلبها ويقينا كاملا بربها ، حتى نزل وصفها بالإيمان من القرآن الكريم ، حيث يقول الباري عز وجل { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قال ابن زيد رحمه الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، هذا في عائشة ، ومن صنع هذا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، ولكن عائشة كانت إمام ذلك ".
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من المؤمنات بنص القرآن الكريم ، ورميها بالكفر أو النفاق كفر بالله تعالى لما تضمنه من تكذيب لله تعالى ، قال تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ }.
2-عظم محبة رسول الله
من صفات أهل الإيمان الصادقين محبة الله ورسوله ، محبة تختلج بها الصدور ، وتنبض بها القلوب ، وتظهر علاماتها في الجوارح ، قال تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ".
وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عميقا ، وتفدي بها أبويها ، بل تفدي بها نفسها وروحها ، والمتتبع لسيرتها العطرة يرى مواقف ومشاهد تعبر بصدق عن عظمة هذه المحبة والتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم .
لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه فتلا عليهن رضي الله عنهن الآية وخيرهن بين البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فراقه ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها ، وأمرها بأن لا تستعجل في اتخاذ القرار حتى تستشير أبويها ، فأجابتها رضي الله عنها بدون تردد ولا تلكأ " أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ".
قال ابن حجر رحمه الله " وفيه منقبة عظيمة لعائشة وبيان كمال عقلها وصحة رأيها مع صغر سنها ".
ولا ضير ، فإن هذه المحبة العظيمة من عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت تدفعها تارة إلى الغيرة الشديدة على أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعن أم سلمة : أنها يعني أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين فلقتي الصحفة ويقول " كلوا ، غارت أمكم " مرتين ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطي صحفة أم سلمة عائشة ".
ومن المعلوم بالتجربة من حال النساء أن الغيرة الشديدة باعثها الحب الشديد ومحاولة الاستئثار بالمحبوب وكراهة المشاركة فيه.
3- وفرة العلم
شهد السلف والخلف لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بوفرة العلم والفقه في الدين :
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال " ما أشكل علينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما ".
عن هشام بن عروة عن أبيه قال " ما رأيت أحدا أعلم بالحلال و الحرام و العلم و الشعر و الطب من عائشة أم المؤمنين".
عن مسلم عن مسروق : أنه قيل له هل كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال " أي والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض ".
وقال الزهري " لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل "
غير أنها رضي الله عنها برزت واشتهرت بثلاثة فنون أكثر من غيرها وهي التفسير والحديث والفقه .
أما علمها بالتفسير ، فلأنه قد تهيأت لها من الأسباب ما جعلها علما شامخا من أعلام التفسير، فمنذ نعومة أظفارها كانت تسمع تلاوة أبيها للقرآن، ثم انتقلت إلى بيت النبوة، وكانت حجرتها مهبط للوحي ، ووصفت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي " ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا".
وكانت كثيرا ما تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاني الآيات ، قالت رضي الله عنها " سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ ؟ فقال : على الصراط".
أضف إلى ذلك ما كانت تتمتع بها من القوة في اللغة العربية مع فصاحتها وبيانها وبلاغتها، كمادة أساسية للتفسير .
و أما الحديث فتعد أمنا عائشة رضي الله عنها من كبار حفاظ السنة من الصحابة، واعتبرها المحققون في المرتبة الخامسة في حفظ الحديث وروايته، بعد أبي هريرة، وابن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس .
وأما الفقه فتعتبر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من كبار علماء الصحابة المتفقهين المفتين، فقد كانت تفتي في خلافة أبيها أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، إلى أن توفيت رضي الله عنها، ولم تكن رضي الله عنها تكتفي بما حفظت من السنة وروته، بل كانت تجتهد في استنباط الأحكام للوقائع المستجدة أيضا.
4- فرط الذكاء
من صفات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فرط ذكائها وكبر عقلها ، فقد كانت دقيقة التأمل والملاحظة ورشيدة التصرف والمعاملة ، ومما يشهد على ذكائها وعقلها قول النبي صلى الله عليه وسلم لها يوما " إني لأعلم إذا كنت عني راضية ، وإذا كنت علي غضبى " قالت رضي الله عنها : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى قلت لا ورب إبراهيم " قالت رضي الله عنها : قلت : أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك .
قال ابن حجر رحمه الله " وفي اختيار عائشة ذكر إبراهيم - عليه الصلاة و السلام - دون غيره من الأنبياء دلالة على مزيد فطنتها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس به كما نص عليه القرآن فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بمن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة ".
وهناك مشهد آخر يعكس دقة تأمل عائشة لتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة كنهها ومغزاها حتى لو تعلقت برغبة داخلية وإحساس نفسي " عن أبي عمرو ذكوان مولى عائشة أن عائشة كانت تقول : " إن من نعم الله علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري ، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ، دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك ، وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فتناولته فاشتد عليه ، وقلت : ألينه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فلينته... ".
5- كمال العفة
ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكذلك وآثار السلف الصالح ما يدل على عفاف أم المؤمنين عائشة ، وصيانتها عن الريبة والشك في أخلاقها، رضي الله عنها ، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وري عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك رحمهما الله أن هذه الآية نزلت في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خاصة.
وفي الآية وصف لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بثلاث خصال وهي الإيمان وقد تقدم الكلام فيه ، والإحصان والغفلة.
أما الإحصان فهو العفة ، يقول أهل اللغة : " امرأة حَصَانٌ وحاصِنٌ وهي العَفيفَةُ ، حَصُنَت المرأةُ تَحْصُن : إذا عَفَّت عن الرِّيبَةِ فهي حَصَانٌ ، والمُحْصَنَةُ : التي أحْصنهَا زَوجها، وهي المحصنات، فالمعنى أنهن أُحْصِنّ بأزواجهن ...".
وأما الغفلة فهي في لغة العصر ما يسمى بالبراءة ، قال ابن عاشور رحمه الله تعالى " و {الغَافِلاتِ} هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به ، وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلا عنه" ، فلم تكن على أدنى علم أو معرفة بما رمي بها من الإفك والبهتان رغم انتشار الشائعة في المدينة ، حتى أخبرتها أمها لما أتتها في بيتها مريضة شاكية بما رمي بها وقيل عنها من العظام الفواقر.
وعن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي فأبيت أن آذن له، حتى أستأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت : إن عمي من الرضاعة استأذن علي فأبيت أن آذن له ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " فليلج عليك عمك " قلت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال صلى الله عليه وسلم " إنه عمك فليلج عليك " ، وفي الحديث احتجاب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عمن تظن أنه أجنبي بالنسبة له ، فلن تأذن لها بالدخول عليها فضلا عن الجلوس معها أو الخلوة بها ، وغير ذلك مما يتساهل فيها نساء كثيرات في زماننا هذا والله المستعان.
ومثله ما روي عن أبي عبد الله سالم سبلان قال : و كنت آتيها مكاتبا ما تختفي مني فتجلس بين يدي، وتتحدث معي ، حتى جئتها ذات يوم فقلت : ادعي لي بالبركة يا أم المؤمنين، قالت : وما ذاك ؟ قلت أعتقني الله ، قالت : بارك الله لك، وأرخت الحجاب دوني فلم أرها بعد ذلك اليوم. قال ابن القيم رحمه الله " واتفقت الأمة على كفر قاذفها ".
6- التواضع وإنكار الذات
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على منزلة مرموقة من التواضع وإنكار الذات ، رغم ما عرفه القاصي والداني من فضائلها ومناقبها.
"عن ذكوان حاجب عائشة أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة ، فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقلت هذا ابن عباس يستأذن ؟ فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال : هذا ابن عباس ، فقالت دعني من ابن عباس ، فقال لها يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك يسلم عليك ويودعك ، فقالت ائذن له إن شئت ، فأدخلته ، فلما دخل قال : أبشرى فما بينك وبين أن تلقى محمدا - صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد ، كنت أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه و سلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يحب إلا طيبا ، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله - صلى الله عليه و سلم - حتى تصبح في المنزل ، وأصبح الناس ليس معهم ماء فأنزل الله عز و جل {فتيمموا صعيدا} فكان هذا من سببك ، وما أنزل الله عز وجل لهذه الأمة من الرخصة ، وأنزل الله عز وجل براءتك من فوق سبع سموات جاء به الروح الأمين ، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله عز وجل يذكر فيه الله إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار ، فقالت رضي الله عنها : " دعني منك يا ابن عباس ، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا "، وهذه القصة الرقيقة التي فيها تعداد مناقبها وفضائلها من حبر الأمة وفقيهها يبرز بوضح درجة تواضعها وخفض جناحها للمؤمنين وعدم دعوى الفضل على الناس ، وهناك لطيفة أخرى ينبغي أن نتذكرها ونتأملها تتعلق بملامح شخصية أمنا عائشة وانطباق خصال الخير وصفات أهل الإيمان عليها، واللطيفة هي أنها رضي الله عنها رغم هذه الفضائل والمناقب فإنها في مقام الخوف من الله والإشفاق من عذابه ، وذلك تطبيق عملي لذلك الدرس الإيماني الذي تلقاه من القرآن ومن البيان النبوي والتفسير المحمدي لمعانيه وأسراره ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : سألت رسول الله- صلى الله عليه و سلم - عن هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}، هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم ، أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
7- الكرم الحاتمي
كل من درس تاريخ العرب سواء ما كان منه في الجاهلية أو ما بعد الإسلام يدرك أن الكرم خلق عربي أصيل ، والعرب فيه متفاوتون كتفاوتهم في سائر الخصال ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ممن حازت قصب السبق في صفة الكرم .
" عن عبد الله بن الزبير قال : ما رأيت امرأتين أجود من عائشة وأسماء وجودهما مختلف أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا كان اجتمع عندها قسمت وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد "، وقد تكفلت رضي الله عنها كثيرا من المتاعب والتبعات من جراء كرمها المفرط – إن صح التعبير – حتى أصبحت مثقلة بالديون ، " وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز قال: قضى معاوية رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس".
8- الدفاع عن حقوق المرأة
عانت المرأة العربية قبل الإسلام من ألوان الظلم وهضم الحقوق الأساسية الكثير ، فكانت توأد وليدة ، وتورث كالمتاع ، وتكلف في الحياة شططا ، وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مدافعة عن الحقوق الشرعية للمرأة ، فتعلمها ما جهلت من حقوقها الفطرية ، وتدلها على وسائل المطالبة بالحسنى ، بل وتسعى لرفع ما يقع عليها من الظلم ، كما ترد على الشبهات والتأويلات التي تراها باطلة في حق المرأة.
فهذه فتاة تدخل على السيدة عائشة شاكية فعلة أبيها، قالت إن أبي زوجني بن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة قالت اجلسي حتى يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيء .
وظلت السيدة عائشة رضي الله عنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم زعيمة المدافعين عن المرأة تنكر على كل من يتكلم بشيء ينال من كرامة المرأة وتغضب منه، عن أبى حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا : إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله - صلى الله عليه و سلم -كان يقول " إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار" ، قال : فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض ، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبى القاسم ما هكذا كان يقول ولكن نبي الله - صلى الله عليه و سلم - كان يقول : كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة ، ثم قرأت عائشة { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب } إلى آخر الآية
وكما كانت رضي الله عنها شديدة الدفاع عن المرأة كانت في نفس الوقت شديدة الإنكار على اللواتي يخالفن بعض أحكام الشريعة ، فقد واجهت نساء حمص عندما دخلن عليها قائلة : " لعلكن من اللواتي يدخلن الحمامات ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله" .
ولما رأت تغيرا في ملابس بعض النساء بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أنكرت ذلك وقالت " لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل".
وهذا من التوازن الشرعي الذي أصبح في عالمنا اليوم أعز خلق وخصلة عند المنتسبين إلى العلم والدعوة ، وحقيقته لزوم الحق دون زيادة ولا نقصان ولا إفراط ولا تفريط ، انظر كيف كانت ناصحة أمينة للنساء إلى جانب كونها مدافعة عنهن ومتحمسة للمحاماة عنهن.
9- كثرة العبادة
روى المقربون من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها صورا ناصعة و حكايات مؤثرة عن كثرة عبادتها وطول تنسكها، مما يبرهن على قوة صلتها بالله تعالى ويكشف عن جوانب من حياتها الربانية.
" عن عروة عن أبيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم "
" وعن القاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر "
" وعنه أيضا قال : قال كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها أسلم عليها، فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم }، وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام ، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي ".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع آله وصحبه
--------------------------------------------------
نجوغو بن مبكي صمب السنغالي
مدرس اللغة العربية في المدارس الثانوية والإعدادية في وزارة التربية والتعليم في السنغال
كاتب و باحث في مجال الشريعة والدعوة والتربية
جربل – السنغال