محمد الفاتح وفتح القسطنطينية.. ذكرى خالدة
الدكتور علي محمد الصلابي - مؤرّخ وفقيه ومفكّر سياسي رابطة علماء أهل السنةتمر ذكرى فتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بتاريخ 30 مايو/ أيار ذكرى عزيزة على المسلمين. ذلك الفتح الذي وَصفتُه بفتح الفتوح العثماني والإسلامي لم يأت من فراغ، وإنما هو نتيجة جهود تراكمية قام بها المسلمون منذ العصور الأولى للإسلام رغبة من تلك الأجيال في تحقيق بشارة رسول الله، وزاد الاهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور دولة بني عثمان، إذ تحقق وعد الله تعالى لتصبح تلك المدينة العظيمة دار الإسلام وإلى يومنا هذا.
من هو السلطان محمد الفاتح؟
هو محمد بن مراد الثاني ولد في أدرنه عام 1481م، ويعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا كانت خيرًا وعزة للمسلمين. تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده بتاريخ 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.
انتهج محمد الفاتح المنهج الذي سار عليه أجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيرًا أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطًا مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الغربية الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن.
الاستعداد لفتح القسطنطينية
شجع العلماء الربانيون مثل أحمد بن إسماعيل الكوراني "معلم الفاتح"، وآق شمس الدين "الملهم الروحي للفتح" في تشجيع السلطان على مضاعفة حركة الجهاد، والإيحاء له بأنه الأمير المقصود بحديث النبي الكريم. ومن بداية تسلمه للسلطنة، قام السلطان محمد الفاتح بإعداد جيش كبير بلغ حوالي مئتين وخمسين ألف مقاتل، وشرع بتجهيز الحصون والقلاع على أطراف القسطنطينية، ولم تفلح محاولات الامبراطور البيزنطي في ثنيه بالأموال ومعاهدات الصلح، وقام الفاتح ببناء قلعة روملي حصار على البوسفور من الطرف الأوروبي مقابل قلعة عثمانية شيدت على البر الآسيوي زمن السلطان بايزيد الثاني.
كذلك اعتنى محمد الفاتح بجمع الأسلحة اللازمة لدك حصون المدينة، واعتمد على مهندسين لتطوير صناعة المدافع المتطورة. ومن هؤلاء اعتماده على مهندس مجري اسمه أوربان. كما طور الأسطول العثماني وزاد في تسليحه حتى وصل لقرابة أربعمائة سفينة حربية ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية. من ناحية أخرى وقع السلطان الفاتح قبيل هجومه على القسطنطينية معاهدات وهدن مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.
الهجوم على القسطنطينية
كان القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة الى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمسةً وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنه والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنه الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م.
وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة. وبرزت عبقرية الفاتح أثناء الحصار، حيث لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدًا عن حي غلطة خوفًا على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
لقد جُرت السفن من البوسفور البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.
كان هذا العمل عظيمًا بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ما تم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة. ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى ثم الهمة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة، وإلى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الأيدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط. ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة" وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.
فتح من الله ونصر قريب
عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفًا عظيمًا، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنًا بريًا وبحريًا في وقت، وكان الهجوم موزعًا على كثير من المناطق، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة.
بعد دخول قلب المدينة، توجه محمد الفاتح إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفًا عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة. وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي
يعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصًا تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة. وقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من استنبول، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة، وتنادى النصارى إلى نبذ الخلافات بينهم.
وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرًا بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. ولكن اضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي أماسيا، وبلاد المورة، طرابزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في أدرنه لتهنئته على انتصاره العظيم.
وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الإسلامي، فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الأجيال، ولقد تطلعت له طويلاً وها قد تحقق وأرسل السلطان محمد الفاتح رسائل إلى حكام الديار الإسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الإسلامي العظيم. وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والأعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة.
كما بعث بمثل هذه الرسائل إلى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاج والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا وإلى جميع أطراف مملكته. فكان فتح القسطنطينية نصرًا وفتحًا مبينًا رفع مكانة الدولة العثمانية، ومهد الطريق لنشر رسالة الإسلام في أنحاء أوروبا، وتوسعت الانتصارات التي أطالت من حكم الدولة العثمانية قرونًا وقرون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- أكرم ضياء العمري، المجتمع المدني، ص115.
2- سالم الرشيدي، محمد الفاتح، ص89.
3- سعيد عاشور، أوروبا في العصور الوسطى، ص29.
4- عبد العزيز العمري، الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص358.
5- علي الصلابي، الدولة العثمانية، دار التوزيع، بور سعيد، 2001، ص. ص87 – 125.
6- فتح القسطنطينية، محمد صفوت، ص69.
7- محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص253.
8- محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ص43.
9- محمد مصطفى، فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح، ص36-46.
10- يلماز أوزنتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ص135.