الخروج على هؤلاء حرام.. أما على العثمانيين فحلال مُبرّر! (مرصد تفنيد الأكاذيب)
رابطة علماء أهل السنة"الخروج على أولي الأمر" تهمة مُعلَّبة تطال كل ذي منحى إصلاحي، وسيف مسلط على رقبة كل من يحاول ضبط مسار الحكام المخالفين لمقتضيات ذلك العقد الشرعي أو الاجتماعي بينهم وبين رعاياهم.
ولم تعرف دولة معاصرة يتردد بين حدودها الجغرافية مصطلح الخروج على الحاكم مثل السعودية، والتي تساند السلطةَ فيها مجموعة من العلماء والدعاة يُشهرون تهمة الخروج في وجه كل من يبدي عدم اتفاق مع سياسات آل سعود، ويتمحورون حول الترويج لطاعة أولي الأمر والسكوت عن مساوئهم، إلى الحد الذي بلغ بأحد دعاتهم أن يصرح بأن الحاكم لو كان له نصف ساعة يوميا يخرج فيها على الفضائيات يرتكب فيها الموبقات، لما جاز لأحد أن ينصحه علانية.
وانطلاقا من هذا، تم الزج بعدد كبير من دعاة ومفكري وإصلاحيي المملكة في السجون لمجرد المعارضة، بل لا نبالغ إن قلنا لمجرد أنهم صمتوا ولم يصفقوا للنظام، فهؤلاء يعبرون عن رأيهم بسلمية، إلا أن تهمة الخروج قد أُلصقت بهم.
إن الخروج على الحاكم الشرعي يكون بخلعه وقتاله بالسيف والتمرد عليه، وليس بقول الحق أمامه، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقد بيّن الصحابي حذيفة بن اليمان الحد الفاصل بين الإنكار والخروج، فقال لمن سأله الإنكار على أحد الأمراء في زمن حذيفة: "إن الأمر والمعروف والنهي عن المنكر لحسن، وليس من السنة أن تشهر السلاح على أميرك"، وقد جرى العمل في عهد الصحابة والتابعين على الإنكار على الحاكم، علمًا بأن ثمة فرق بين الخطأ الذي يرتكبه الحاكم في خاصة نفسه فهذا يُنصح سرًا، وبين الخطأ الذي يتعلق بعامة الناس ويتغلغل فيهم، فهذا يُنكر أمام الناس ويُبيّن الخطأ الذي وقع فيها الحاكم، وهذا ما قرره على مقطع فيديو منتشر، عالم الشريعة السعودي المعتقل حاليا "عبد العزيز الطريفي".
ربما يعجب القارئ لهذا التأصيل الشرعي والحديث عن مصطلح الخروج على الحاكم في السعودية، ما علاقة ذلك بتركيا، بل وما علاقته بمرصد تفنيد الأكاذيب؟
تعمدت هذا السرد والتأصيل، لبيان وضع متناقض.. الذي تعيش فيه السعودية ومؤسستها الدينية الرسمية، فهناك من يعتبرون أن مجرد معارضة حاكم آل سعود ومخالفته والإنكار عليه بالقول، نوعًا من الخروج عليه، بينما يحفل تاريخ آل سعود بالخروج على الدولة العثمانية التي كانت لها السيادة والخلافة في حقبة تاريخية طويلة، لكنهم لا يعتبرونه خروجا.
انتشرت هذه الآونة مقاطع فيديو موجهة للطعن في التاريخ العثماني، وكان من بينها ما تعلق بتدخل السلطان العثماني في نجد لمواجهة السعوديين الذين يرفعون لواء دعوة محمد بن عبد الوهاب، عن طريق واليه على مصر محمد علي باشا، المقطع يتحدث عن استنهاض أهل نجد لإقامة الدولة السعودية الثانية التي يحكم فيها السعوديون أنفسهم، وهكذا لا يرى معد المقطع أن التمرد المسلح لأهل نجد كان من الخروج على الدولة العثمانية، وأن انفرادهم بحكم ذاتي بعيدا عنها أمر سائغ.
إن القول بأن السعوديين لم يخرجوا على الدولة العثمانية على اعتبار أن الإمارات النجدية كانت بعيدة عن سلطة العثمانيين، هو قول غير صحيح، لأن نجد كانت يتنازعها نفوذ أمراء الأحساء ونفوذ أمراء أشراف الحجاز، وكلاهما كانا تابعين للدولة العثمانية.
فهذا ابن غنام مؤرخ الدعوة الوهابية وأحد دعاتها ينقل في كتابه "تاريخ نجد"، رسالة من الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير عبد العزيز بن سعود إلى شريف مكة مشفعة بالهدايا، يجيبان فيها على استفساره حول طبيعة الدعوة، فتضمنت الرسالة في آخرها عبارة: "يعلم الشريف أن غلمانك (يعني ابن عبد الوهاب وابن سعود) من جملة الخدام ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته" فجعلا الرجلان نفسيهما من جملة خدام الأشراف التابعين للدولة العثمانية كما هو مبين في الرسالة، لأنه في ذلك الوقت كانت الدعوة حركة إصلاحية محلية في منطقة محدودة خاضعة لنفوذ شريف مكة الموظف لدى العثمانيين، وبعدها امتد نفوذها في المناطق المجاورة تحت سيادة الدولة العثمانية كذلك.
ولما وقّع عبد الله بن سعود معاهدة مع طوسون بن محمد علي والي مصر معاهدة صلح عقب الحملة على الجزيرة العربية، تم الاعتراف في المعاهدة بعبد الله واليا على نجد، وأعلن هو ولاءه للخليفة العثماني وهو ما ذكره "جون كيلي" في كتابه "بريطانيا والخليج".
وبعد تمرد محمد علي على الدولة العثمانية ثم هزيمته عام 1840م أصبحت الجزيرة العربية تتبع الباب العالي مباشرة بحسب المعاهدة بين والي مصر والدولة العثمانية، وفي العام التالي قام خالد بن سعود بالاعتراف بالباب العالي وتم تعيينه واليا على نجد.
وكان فيصل بن تركي بن سعود يدفع الزكاة لشريف مكة التابع للدولة العثمانية.
وعبد الرحمن بن سعود والد عبد العزيز (مؤسس الدولة الثالثة) كتب إلى نقيب الأشراف في البصرة يؤكد تبعيته للدولة العثمانية، وذلك في وقت كانت الدولة تُجري عليه وعلى ولده مخصصاتها المالية عندما كانت أسرته لاجئة في الكويت كما يقول حسين خلف خزعل في كتابه "تاريخ الكويت".
وأما عبد العزيز بن سعود فقد أرسل للأستانة رسالة يقول فيها: "عبوديتي وخدماتي لمقام الخلافة معلومة..وإن سكان جزيرة نجد عموما قلبا وقالبا وجميعنا على استعداد للدفاع عن الدولة بأموالنا وأرواحنا....التوقيع/ خادم الدولة أمير نجد ورئيس عشائرها عبد العزيز السعود" وهذا مدون أيضا في كتاب تاريخ الكويت لخزعل.
إذن، كان هنا اعتراف بالسيادة العثمانية من قبل آل سعود، فلا يبقى مجال لنفي القول بأن القتال الذي دار بين السعوديين وبين العثمانيين هو خروج واضح على أولي الأمر.
وهنا لابد من طرح سؤال والإجابة عليه معًا: لماذا جرد العثمانيين حملة ضد السعوديين عن طريق محمد علي والي مصر؟ ما هو السبب؟
لقد كان سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، والملقب بـ سعود الكبير" شديد اللهجة في خطابه للخليفة العثماني، وقامت قواته بغزو كربلاء وقتلوا أعدادا كبيرة منها، فساءت العلاقات مع العثمانيين، خاصة وأن الدولة القاجارية (إيران اليوم) أرسلت للدولة العثمانية بأنها إن لم تكن قادرة على حماية الأراضي المقدسة (بحسب قناعات الشيعة) فبإمكان القاجاريين الدفاع عنها.
لكن كان هناك حدث أعظم هو ما أثار الدولة العثمانية على السعوديين، يقول المؤرخ السعودي د.أحمد البسام في إحدى محاضراته: "كل هذه الأحداث كان من الممكن تحملها، لكن الحدث الأساس هو ضم الدولة السعودية لمكة والمدينة عام 1218ه".
ومن المعلوم قيمة الحرمين لدى كل نظام إسلامي حكم الدول الإسلامية، فلم تكن الدولة العثمانية لتسكت عن هذا الأمر، لأن الحرمين خط أحمر، ولذلك استوعب السعوديون الدرس، فعندما قامت دولتهم الثانية تجنبوا القفز على الحجاز.
أرسل السلطان العثماني لواليه على مصر محمد علي، فجرد حملته متعددة الفصول على الجزيرة، وكان الهدف استرجاع الحرمين، والقضاء على الدولة السعودية، وبعد معارك قادها طوسون باشا، ثم إبراهيم باشا ولدا محمد علي، تمت محاصرة الدرعية، وكان الأمير عبد الله قد خلف والده سعود في الإمامة، واستسلم لجيش إبراهيم باشا بدون شروط واقتيد إلى مصر ثم إلى إسطنبول وأعدم هناك.
ولم تكن غاية الدولة العثمانية محاربة الإمارات النجدية كلها، كان الهدف محددا كما أسلفنا، ولذلك لما أسقطت قوات محمد علي الدرعية وتوجهت إلى الأحساء، جاءت رسالة من السلطان العثماني بالأمر بالانسحاب.
فكما رأينا، السعوديون في نجد خرجوا على الدولة العثمانية، بل وسلبوا منها مكة والمدينة، ومن المعروف أنهما تحت السيادة العثمانية المباشرة منذ دخول العثمانيين الشام ومصر في عهد السلطان سليم الأول.
وإنا لنتساءل: ألم يقاتل آل سعود من خرج عليهم؟
ألم تقمع قوات الأمن السعودية الاضطرابات التي أحدثها الشيعة في القطيف عام 1979 تزامنا مع ثورة الخميني في إيران؟
ألم تقاتل القوات السعودية في الحرم المكي جيهمان العتيبي وأنصاره في نفس العام بعد استيلائهم على البيت الحرام ومبايعتهم محمد بن عبد الله القحطاني خليفة للمسلمين بزعم أنه المهدي المنتظر؟
إذا كانت هذه الأحداث تعد خروجًا على أولي الأمر يسوغ له قتال المتمردين، أليس ما قام به السعوديون في نجد خروجًا على الخليفة العثماني؟
المصدر : الأناضول