الرعاية الأوروبية للاستبداد العربي
الأستاذ حسام شاكر رابطة علماء أهل السنةأعادت وفاة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي في ظروف اعتقال قاسية تسليط الضوء على سياسة الاتحاد الأوروبي في التعاطي مع أنظمة استبدادية موغلة في انتهاك حقوق الإنسان.
تسلّل نبأ ضمن أخبار مسائية عن “وفاة” رئيس العهد الديمقراطي القصير في مصر محمدمرسي، في أثناء “محاكمته”. لم تلتفت العواصم الأوروبية إلى حدث 17يونيو/حزيران 2019، باستثناءات منها تصريح هزيل أدلى به ناطق باسم المفوضية الأوروبية لمحطة “يورو نيوز” قدّم فيه التعازي لأسرة مرسي.
تجاهلت أوروبا ما جرى مع أول رئيس مدني منتخب في مصر طوال سجنه السياسي عبر سنوات ستّ وصولاً إلى شبهات “الموت المُفتعَل” بسبب الإهمال الطبي أو غيره التي دفعت منظمات حقوقية مثل “العفو الدولية” إلى المطالبة بالتحقيق فيه.
ينسجم هذا التجاهل مع توجُّهات استراتيجية أوروبية مُبرَمة نحو العالم العربي، تميل إلى الشراكة مع الأنظمة القائمة، وهي خلاصة ما جرى على مدار العقد الأخير.
واكبت أوروبا منعطفاً عربياً ابتدأ في أواخر سنة 2010، عندما غضبت الجماهير في أعماق تونس التي تمتع نظامها بإطراء مزمن في منصّات أوروبية. حلّت مصر محطة ثانية لثورة الجماهير، بما يعنيه هذا لوجهة المنطقة وعلاقاتها مع أوروبا والغرب، بالتزامن مع انتفاضة في ليبيا استنفرت القلق على المصالح الأوروبية التي انتعشت فيها بعد حصار فُرِض على “الجماهيرية”.
كان مريحاً لأوروبا التعامل مع القابضين على الأوضاع في جوارها الجنوبي بما يسّر التفاهم على الملفات الاستراتيجية وتبادلات المصالح، والتقاط صور مكللة بالابتسامات في “الشراكة الأوروبية المتوسطية” مثلاً.
ثم اندلع الغضب الشعبي العربي فجأة واتّسعت رقعته ففرض تغيير منطق التعامل الأوروبي معه في غضون أسابيع معدودة، من التجاهل والصمت إلى المسايرة أو التملُّق، مع السعي لاحتواء المشهد الجديد لتثبيت خريطة المصالح القديمة.
صحيح أنّ أوروبا رفعت شعارات الحقوق والحريات ودعم الديمقراطية قبل الانتفاضات العربية، لكنّ “الواقعية السياسية” فضّلت أنظمة “الاستقرار وحماية المصالح ومكافحة الإرهاب وكبحالهجرة”، بما جعل ابن علي في تونس ومبارك في مصر وحتى القذافي في ليبيا شركاء للديمقراطيات الأوروبية، شأن غيرهم من زعماء العالم العربي مغرباً ومشرقاً.
ذكّرت الجماهير العربية قادة أوروبا بالجوهر الاستبدادي للأنظمة الشريكة، بما أربك المواقف الأوروبية في الأسابيع العشرة الأولى من الانتفاضات الشعبية.
احتفظ بعض حكومات القارة حتى حينه بالمراهنة على قادة مستبدين، ثم طرأت انعطافة نحو مديح الجماهير العربية لفظياً والترحيب بتطلّعاتها نحو الحرية والديمقراطية، وأظهرت عواصم أوروبية حرصها على مواكبة ترتيبات الأوضاع الجديدة في الجوار الجنوبي و”دعم مسيرة التحوّل”.
أعلن وزير الخارجية الفرنسي وقتها، آلان جوبيه، في مداخلة برلمانية يوم 30مارس/آذار 2011، عن منطق التوجّه الأوروبي الجديد بقوله: “على أوروبا، وأبعد من عملية الانتقال الديمقراطية التي يجب دعمها، تشجيع انبثاق منطقة استقرار وازدهار في جوارها الجنوبي المباشر”.
تجلّى هذا التوجّه في إعادة إنتاج فكرة “الجوار الأوروبي” من خلال “سياسة الجوار الجديدة” التي أطلقتها في ربيع2011 كاثرين أشتون ممثلة العلاقات الخارجية الأوروبية، وتمّ تغليفها بعبارة “الشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية والازدهار المتبادل في جنوب المتوسط”.
على هذا المنوال، بادرت عواصم أوروبية مثل لندن وباريس وبرلين وروما، بعرض “خدماتها” على بلدان التحوّل الديمقراطي، من قبيل ما اقترحه وزير الخارجية الألماني غيدو فسترفيله على القاهرة من “شراكة لأجل التحول الديمقراطي، بهدف المساهمة في تعزيز بناء نظام ديمقراطي وهياكل دولة القانون من خلال مساعدات محددة على قاعدة من الندية والشراكة، ودعم المجتمع المدني والمساهمة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي”، حسب نشرة الخارجية الألمانية في أبريل/نيسان2011.
أدركت أوروبا أنّ عواصم التحوّل الجديد تبقى بحاجة إلى المانحين والدعم الدولي، بما يتيح لأوروبا التأثير على وجهاتها.
تلقّى شباب الميادين العربية وقتها دعوات أوروبية متزايدة لتقديم “أوراق” عن تجاربهم، وحظي بعضهم بتعاقدات لإنجاز تقارير عن الحالة، كما احتفى البرلمان الأوروبي بفرسان الانتفاضات وخصّص لهم “جائزة زاخاروف” المكرّسة لحرية التعبير.
لكنّ الانعطافة الأوروبية دارت مع اتجاهات المصالح لاستعادة المبادرة على أرضية المتغيرات المتسارعة.
كان مما قاله آلان جوبيه في أثناء تسلّمه حقيبة الخارجية الفرنسية في أوّل مارس/آذار 2011 : “بالتأكيد ما يجري اليوم في جنوب المتوسط يُغَيِّر كليّاً المُعطَى الموجود، ومن واجبنا التفكير به واستعادة المبادرة. سيكون هذا واحداً من طموحاتنا التي تحظى بالأولوية”.
سرعان ما استعادت باريس زمام المبادرة سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً في بلدان المخاض العربي، مثل ليبيا وسوريا، انطلاقاً من قراءاتها لخرائط مصالحها.
اكتشف قادة أوروبا في بواكير سنة 2011 أنّ “الحكام العرب الذين حظوا بالتدليل من الغرب بدعوى الاستقرار، لم يعودوا صالحين للمستقبل”، بتعبير المعلق الألماني ديتر ساتلر في “فرانكفورتر نويه برسّه”، 7 فبراير/شباط 2011.
هكذا أنعشت الانتفاضات العربية الأمل بخوض مراجعات أخلاقية للسياسات الخارجية الأوروبية، والاستدراك على منطق تغليب المصالح على الالتزامات الأخلاقية والقيمية التي لا تكلّ أوروبا عن تمجيدها.
لكنّ الانقضاض اللاحق على جماهير الميادين دون اعتراضات جادة من أوروبا بدّد التوقعات الحالمة، فخابت آمال الداعين إلى الكفّ عن سياسات تمنح الحصانة لأنظمة تضطهد شعوبها.
لا يُخفي بعض نخب أوروبا خشيتها من مُخرَجات الديمقراطية في الجوار، فالديمقراطية العربية المرغوبة هي مع نتائج محددة لا تمسّ بالمصالح الأوروبية المتصوّرة.
عبّر وزير الخارجية الإيطالي آنذاك فرانكو فراتيني، عن شيء من ذلك بقوله “من الضروري أن ندعم بقوة حكومات تلك البلدان، من المغرب إلى مصر (في عهد مبارك)، التي يقودها ملوك أو رؤساء دول شيّدوا أنظمة علمانية حَمَت من الأصوليات”، كما قال لصحيفة “كورييري ديلّا سيرا” يوم17يناير/كانون الثاني2011، مضيفاً: “إنني أستشهد بمثال القذافي الذي حقّق في بلاده إصلاحا سمّاه بالمؤتمرات الشعبية الإقليمية (…) وبالنسبة إلَيّ تُعَدّ هذه مؤشِّرات إيجابية”.
ليس مفاجئاً بالتالي أن تتلاشى الحفاوة الأوروبية بانتفاضات العرب بحلول سنة 2013، وأن يتبدّد موسم التكريم الأوروبي لروّاد الميادين العربية، فالقارة فضّلت أنظمة “الحفاظ على الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب ووقف الهجرة”.
كشفت خبرة العقد الأخير عن هشاشة الالتزام الأوروبي بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وخيارات الشعوب في جوارها الجنوبي، وتوالت البراهين على أنّ أولوية المصالح تفرض ذاتها على شعارات مبدئية.
لم يُواجَه سحق المعتصمين في ميادين عربية بأيّ تقريع جادّ أو اعتراضات بوزن سحب السفراء الأوروبيين مثلاً، بما يعني أنّ التزام حقوق الإنسان يبقى خياراً جيداً إنْ وافق تقديرات المصالح الاستراتيجية، مع إصدار بلاغات نمطية عن القلق والاستياء.
صارت مذابح الميادين واكتظاظ السجون السياسية بالمعارضين تقليداً مستقرّاً في “الجوار الجنوبي”، دون أن يمسّ الشراكة الأوروبية مع الأنظمة المعنية. يبدو مفهوماً إذًا أن تتجاهل أوروبا مأساة أبرز سجين سياسي في مصر، فموقف الصمت حيال “وفاة” مرسي لا ينفكّ أساساً عن خيار التعامي عمّا يجري من تدهور جسيم برعاية خارجية.
لكنّ التاريخ العربي لم ينتهِ بعد، فأنظمة القهر التي تستند إلى علاقات متميزة مع عواصم أوروبية وغربية، بخاصة في زمن ترمب، تُفاقِم المعضلات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة رغم الأعطيات والضمانات التي يغدقها عليها شركاؤها الغربيون.
تدفع الحالة بتأثيرات طاردة للشباب نحو تخوم التطرف وضفاف المتوسط الشمالية، بينما تختمر محفِّزات الغضب الجديد في وجه أنظمة تخشى المستقبل، بما سيفرض على أوروبا الأسئلة الشائكة ذاتها عن جدوى المراهنة على الشراكة المزمنة مع الاستبداد والسطوة.
_________________
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه و لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
المصدر : مركز أميّة للبحوث والدراسات