الديمقراطية.. المعبود المأكول!
الأستاذ محمد إلهامي - باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية رابطة علماء أهل السنةلعل أدق ما قيل في هذه السنين الماضية أن الديمقراطية ليست إلا صنم العجوة التي كان يتخذها الجاهلي في سفره معبودا، فإذا جاع أكله.
الديمقراطية لفظ يكاد أن يطل في كل مقال وكل بحث وكل دراسة وكل كتاب وكل خطاب وكل برنامج، يقال في ظل المستبد وفي ظل الثورة وفي ظل الانقلابات العسكرية، وكلٌّ يدَّعي وصلا بالديمقراطية، ثم كلُّهم يأكلها إذا جاع، وهل من جائع هو أشد من الجائع للسلطة والهيمنة؟!
حين يجدّ الجدّ يختفي المعنى البسيط المباشر للديمقراطية: أن يختار الشعب من يحكمه، لتحل محله فلسفات عقيمة (أو: عميقة، لا فرق)، ونقاشات طويلة مملة خلاصتها في النهاية: كيف نصرف حق الحكم عن هذا الشعب، وكيف تهندس النخبة الحاكمة النظام الحاكم على مقاسها، وتنهمر أحاديث لا نهاية لها عن فلسفة الديمقراطية ومعناها ومعاييرها وخصوصياتها وأزماتها، وهل تصلح في بلادنا؟ وهل تناسب شعوبنا؟ ومتى نبدأ بها؟ وكيف؟ وما هو طول الفترة الانتقالية المناسبة: عام أم عامان أم أربعة أعوام؟ وماذا لو جاءتنا الديمقراطية بمن لا نرغب فيهم؟ وماذا لو جاءتنا الديمقراطية بمن لا ترضى عنهم الأسرة الدولية (لاحظ مصطلح "الأسرة" الدافئ العميق هذا، كأن العالم يجتمع أمام مدفأة العائلة يتمتع بأبوة وحنان القوى الكبرى)؟! وهل نضع الدستور أولا أم نمارس الانتخابات؟ وهل نبدأ بانتخابات البرلمان أم الرئاسة؟ ومن يكتب الدستور؟ وهل تكتب الدساتير بالتوافق أم هي تعبير عن انحيازات الأغلبية ... إلخ!
طابور طويل لا ينتهي من الأسئلة التي تلد غيرها ثم لا تكف عن التكاثر، بينما كان فلاسفة الديمقراطية قبل أن يجدّ الجد يُشعروننا أن الأمر بسيط وواضح ومُجَرَّب ولن نعيد اختراع العجلة!، فلما احتجنا إلى هذا الترياق الديمقراطي الذي طالما تعطشنا له حتى ظننا أنه السِّحر الذي سيقلب بلادنا إلى جنة، إذا بمن رسموا لنا الجنة وتغزلوا في الترياق انقلبوا على أنفسهم وأغرقونا في هذه الأسئلة!
لن نوغل في الماضي لنذكر أحداث مصر وفلسطين والجزائر عند مطلع التسعينات، إن لدينا الآن ثورتان: واحدة في السودان والأخرى في الجزائر! خرج الشعبان في ثورة وخرج لهم الجيش يهددهم أهلا ثم يستجيب لهم بعد قليل أو كثير من القتلى ثم يتوقف الزمن! يتفق الجيشان بعد هذا على تعطيل هذا التحول الديمقراطي، ويتفق معهما فيه النخبة العلمانية التي احتكرت حديث الديمقراطية واتهام الإسلاميين بالاستبداد!
إن الذي استطاع إزاحة رأس النظام واعتقال أبرز وجوهه، يستطيع أن يضمن بهذه القوة إجراء انتخابات نزيهة وترك الأمر ليقرره الشعب نفسه. يبدو الأمر بسيطا فعلا لكنه مع هذا لا يحدث بل يبدو دائما أنه معقد ويزداد تعقيدا!
ترى لماذا؟!
الإجابة البسيطة: لأن الديمقراطية كصنم العجوة.. لما جاع كَهَنَتُه أكلوه!
إن العالم الذي تحكمه المصالح وصراعات النفوذ والهيمنة لن يلتفت بطبيعة الحال لرغبة الشعوب المنهوبة المسلوبة، فكيف إذا كانت هذه الرغبة هي التهديد والأزمة في معركة الهيمنة والنفوذ؟! ولهذا يبتلع العالم كله الانقلابات العسكرية والمذابح الأسطورية كما يبتلع قطعة اللحم في وجبة العشاء في الأمم المتحدة، تلك الهيئة التي يجتمع فيها الكبار وصنائعهم الصغار ليمارسوا الحديث حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ومشكلات الأوطان!
هذا كلام لا يحتاج أن يكون استنتاجا لأننا كنا مسرح الجريمة وضحاياها، إلا أننا نحتاج دائما للتذكير به لأن بعضا من قومنا وأهلنا اندمجوا في المسرحية الكبيرة وتحمسوا جدا لمسألة الديمقراطية وأخلصوا لها إخلاصا عظيما حتى ظنوا أن مشكلة العالم معنا أنه لا يفهم الأوضاع بشكل جيد في بلادنا أو أنه عالم مؤيد حقا للديمقراطية ولكن لديه بعض تخوفات ينبغي علينا إزالتها وتطمينه من ناحيتها!
إن مسألة تجاوز الديمقراطية يفعلها العالم ببساطةِ أكلِ الجاهلي صنمَ العجوة، لا يفكر كثيرا في الأمر، ولا ينظر إلى ذلك باعتبارها خيانة للمبدأ أو تشويها للإله، لكن يجري تغليف المسألة بعبارات فلسفية منمقة (ويجب أن نعترف للحضارة الغربية المعاصرة بقدرتها الفائقة على صناعات التغليف والتعبئة)، هذه الفلسفة المنمقة تعمل كمُسِهِّل لعملية هضم الجريمة المنصوبة: جريمة استعباد الشعوب وإعادتها إلى الحظيرة بكل وسيلة.
يمكن أن ننقل عبارات مطولة من مذكرات وخطابات صناع القرار العالمي في التبرير المزخرف لسياسة التهام صنم العجوة الديمقراطي، كيسنجر مثلا في "النظام العالمي" وهيلاري كلينتون في مذكراتها "خيارات صعبة" وبول بريمر في مذكراته "عام قضيته في العراق" ويكاد سائر من عاصروا حرب العراق وثورات الربيع العربي من أولئك السياسيين أن يكونوا تناولوا مسألة الاختيار بين الديمقراطية والمصالح الأمريكية في العالم العربي.
لكن المعنى الأهم الذي ينبغي الانتباه إليه أن الأصنام في الجاهلية ظلت معبودة رغم أنها مأكولة، فلم يكن التهام أحدهم لإلهه الذي صنعه مانعا له أن يكرر عبادة الصنم، والبيئة التي كانت تؤكل فيها الأصنام ظلت تعبد الأصنام كذلك، ولقد رأى قوم إبراهيم –عليه السلام- أصنامهم مكسورة فلم يتساءلوا كيف لم تدفع الآلهة عن نفسها بل تساءلوا (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين)، وحاول إبراهيم –عليه السلام- استفزاز عقولهم فأشار إلى الصنم الكبير باعتباره المتهم الأول لأنه يحمل الفأس وباعتباره لا يقبل مزاحمة هذه الآلة الصغيرة له، ولكنهم مع ذلك قرروا إحراق إبراهيم عليه السلام!
نعم، لقد دافعت البيئة الوثنية دفاعا مريرا عن هذه الأصنام باعتبارها ميراث الآباء والأجداد العظام المؤسسين، وباعتبارها مركز النظام القائم ومحط شرعيته، وتعاملت بكل القسوة مع من حاولوا التنبيه على أن هذه الأصنام لا تصلح كمعبودات، وأبرز النظام الوثني مخالبه وكشَّر عن أنيابه، ثم خاض حروبا مريرة تحت راية الأصنام، ولم تسقط الأصنام في نهاية المطاف إلا حين امتلك المسلمون (القدرة) على تحطيمها.
في كتابه "آفاق الحرية"، ذكر د. علي العمري –الداعية الأسير في السجون السعودية والذي طالبت النيابة بإعدامه- أنه قد تعددت مذاهب الإسلاميين المعاصرين في مسألة: أيهما أولا الحرية أم الشريعة؟، على أربعة أقوال: فقد ذهب القرضاوي ومحمد أحمد الراشد إلى أن المناداة يجب أن تكون بالحرية أولا فهي أساس اختيار الشريعة وهي الممهدة لها، وذهب محمد الحسن ولد الددو إلى أن الشريعة أولا لأن الدين فطرة مركبة في النفس لكن الحرية تكون سابقة للتدين إذ يفعل المرء الطاعات وينزجر عن المعاصي صادرا عن حرية اختيار، وذهب راشد الغنوشي والمطهري إلى أن الحرية والشريعة كليهما من بعضهما بحيث لا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر أو ينفصل عنه، وذهب حسن الترابي[1] إلى أن الحرية هي قدر الله للإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق[2].
وقد كنتُ منذ أمدٍ أميل إلى هذا المذهب الأول، إلى أن اعتنقت مذهبا خامسا –لو صح التعبير- وخلاصته أن الذي يختار هو الذي يتمتع أصلا بالقدرة على الاختيار، أما حيث عجزنا عن هذا فإن اختلاف النظر لن يعدو أن يكون ثرثرة فلسفية بلا ثمرة حقيقية عملية، ذلك أن الغالب المهيمن لا يطرح الخيارات على المغلوب وإنما يقهره على إرادته ونظامه، ومهما امتلك العبد المقهور ناصية البيان ومهما صاغ بناء متينا لفلسفته فسيظل عبدا، وكم في التاريخ من عبيد شعراء!