بعد أن عاش 112 عاما قضاها معتزلا الدنيا يبث العلم في صدور الرجال، رحل شيخ علماء موريتانيا المرابط الحاج ولد فحفو، فبكاه الطلاب والمشايخ في مختلف أرجاء العالم.
وبمجرد الإعلان عن رحيله الثلاثاء، تدفقت المراثي والتأبينات على أسرة الشيخ الذي بلغ صيته أنحاء الأرض واستقطبت محظرته التقليدية تلاميذ العلوم الإسلامية من مختلف دول العالم.
وُلد الشيخ الحاج ولد فحفو في العقد الأول من القرن العشرين في منطقة الرگيبة بولاية لعصابة وسط موريتانيا، ونشأ في بيت علم وثقافة وأدب، فدرس القرآن الكريم وأكمل تجويده بروايات عديدة على عدد من القراء من بينهم خاله محمد الأمين ولد بوب.
كما درس على عدد من العلماء الذين عاصروه، ومنهم العلامة أحمد فال ولد آدو، وأحمد محمود ولد عبد القادر، وأواه ولد الطالب إبراهيم، ومحمد الأمين ولد أحمد زيدان، وآب ولد أخطور المعروف بمحمد الأمين الشنقيطي.
تبحر الشيخ ولد فحفو في مختلف علوم المحظرة الموريتانية وخصوصا الفقه والنحو والقراءات، كما كان محبًّا للغة والشعر، وظلت محظرته في منطقة تويميرات محط قوافل الطلاب من مختلف أنحاء العالم.
وكان من بين تلاميذه المشهورين والمتأثرين بمنهجه العلمي والتربوي الشيخ الأميركي حمزة يوسف، الذي أقام معه سنين عدة، والشيخ عبد الله بن بيّه، والشيخ محمد الحسن ولد الددو.
ألّف الشيخ في مجالات علمية مختلفة من بينها العقيدة والفقه والنحو والأدب، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "لباب النقول في متشابه القرآن وأحاديث الرسول". وشرحه لألفية بن مالك، وشرحه للمقصور والمدود.
الحج على القدمين
في عام 1938 عزم الشيخ ولد فحفو على أداء فريضة الحج، فعقد النية واتجه صوب بيت الله الحرام حاجًا سيرًا على الأقدام، فانطلق من كيفة وسط موريتانيا حيث توجه نحو خايْ ثم إلى أزواد وباماكو وفورلامي، وهي إنجمينا حاليا عاصمة تشاد.
المرابط الحاج تخرّج على يديه العديد من أكابر علماء موريتانيا (مواقع التواصل)
ويذكرُ في روايته عن رحلة حجه أن الفرنسيين أقاموا بفورلامي حاجزا أمنيا منيعا لا يتجاوزه إلا من استكمل التفتيش واستوفى وثائق السفر والعبور، ورغم عدم توفره على أي أوراق فقد تمكن من تجاوز الحاجز من دون صعوبة، لأنهم ظنوا أنه مرافق لأحد التجار.
وصل ولد فحفو السودان وعبر منه نحو البحر الأحمر الذي ركبه نحو جدة وبعدها مكة المكرمة، وبعد أن أدى مناسك الحج توجه إلى المدينةالمنورة حيث زار الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام وصلى بمسجده وأقام هناك قليلا، ثم بدأ مسار رحلة العودة إلى بلاده.
شيخ الزهاد
حوى العلامة الزاهد ولد فحفو الكثير من المناقب والخصال، إلا أنه اشتهر بالزهد أيما شهرة فكان غايةً ومضربا للمثل، "ومن زهده أنه ما استلذ شيئا من نعيم الدنيا إلا تركه، ومن ذلك تركه شرب الشاي وعزوفه عن الذهاب إلى النخيل في موسم زهوه"، كما يحكي ذلك تلميذه الشيخ الناجي ولد داهي.
العارفون بالزاهد ولد فحفو يقولون إنه كان كثير العبادة لا يهجع من الليل إلا قليلا، وما استيقظ ونام بعد ذلك، بل يقوم يصلي ويقرأ القرآن حتى يسفر الفجر ويصلي الصبح، وهو أيضا شديد الرفض للاغتياب، لا يسكت عن المنكر بل يغيّره بقوة.
يروي طلابه أنه كان كريمًا يولي عناية بالغة بالضيوف، وحتى في سنيه الأخيرة لم ينفك عن ذكر متلازمتين هما: السؤال عن وقت الصلاة، والحث على إكرام الضيف.
وهن العظم من الشيخ وأنحله جسمه الصوم، غير أن مئة وتزيد من السنين لم تنقص من ذاكرته الحية وقواه العقلية والذهنية التي ظلت كاملة إلى أيامه الأخيرة في الدنيا.
كما توارى في حياته عن الأنظار انزوى ميتا بمنطقة معزولة ولم يحمل قبره أي إشارة لمكانته العلمية
ومن غرائب الشيخ الحاج، كما يذكر تلميذه الشيخ محمد الحسن الددو، أنه عاش سنواته الأخيرة مقعدا لا يمكنه القيام بنفسه إلا لأداء الصلاة حيث تمنحه مناجاة ربه قوة في الجسم فيصلي قائما، ثم إذا سلم منها عاد إليه وهن السنين.
عزلة في الجبال
عاش الشيخ الحاج عقودا طويلة في قرية تويميرات بين ولايتي تكانت ولعصابة (وسط موريتانيا) بمنطقة جبلية وعرة معتزلا العالم والأضواء التي تلاحقه من كل مكان.
ظل ولد فحفو يرفض الهدايا الوافرة التي يقدمها إليه الرؤساء والساسة والأثرياء، مكتفيا بحياة بدوية وعلاقة مستمرة مع القرآن الكريم.
كان الشيخ الحاج يرفض زيارة المدن وخصوصا العاصمة نواكشوط، وذلك لما ينتشر فيها من مظاهر جديدة لا تتلاءم مع حياته ونقاء قلبه وتعلقه بنهج كبار الزهاد من الصحابة والتابعين.
لم يزر الشيخ الحاج نواكشوط سوى مرتين، وكلاهما كان في حالة إغماء مرضي وما أن يفيق حتى يأمر بنقله فورا إلى تويميرات حيث أفنى عمره بين المحراب وحلقة التدريس.
عن قرن ونيف، توفي المرابط الحاج، فتسابق إلى رثائه وتأبينه العلماء والشعراء وعامة الموريتانيين الذين لم يعرفوا الرجل في وسائل الإعلام ولا منتديات البحث ولكن عبر قصص ونوادر عن رجل كان يجد راحته في الصلاة وكان يفد إليه الطلاب من قارات العالم بحثا عن مثال من الرعيل الأول.