بين التربية التوراتية عندهم وتجفيف الينابيع عندنا!!
الدكتورة ليلى بيومي
رابطة علماء أهل السنة
الذي يعلمه القاصي والداني ولا يخفى على أحد أن المدارس والجامعات في الكيان الصهيوني يتم فيها تدريس التوراة والتلمود بكثافة عالية جدًا، وأن الثقافة الدينية عند بني صهيون لها احترامها وتقديرها .. ومؤسسات الدولة كلها تسهر على رعايتها ونشرها في المجتمع.
ولا يخفى كذلك مدى كثرة وسطوة وأهمية وانتشار الأحزاب الدينية في المجتمع الصهيوني، وهي كثيرًا ما تفوز في الانتخابات البرلمانية، وإن لم تفز فإنه يكون لها وجود قوي في الكنيست، مما يؤدي إلى ضمان عدم صدور قانون يتعارض مع التوراة أو قواعد التلمود، ولم يحدث في تاريخ دولة الكيان أن حدث هذا التعارض، ولم لا والكيان الصهيوني نفسه لم يقم في الأساس إلا بناءً على الكتب المقدسة عند اليهود، وهو ما جعل الباحثين في أنحاء العالم يجمعون على أن الدولة الدينية الوحيدة في العالم حاليًا هي دولة الكيان الصهيوني.
ونحن نضرب المثل في هذه السطور بوزير التربية الصهيوني نفتالي بينيت، المختص في مجال التقنية العالية، والذي ساهم في وضع برنامج متقدّم لتعليم الرياضيات في الكيان الصهيوني، ومع ذلك، فقد دعا هذا الوزير، مؤخرًا، إلى زيادة تعليم الديانة اليهودية في المدارس، وقال: "أرى أهمِّية في تعليم دروس اليهودية والتفوّق فيها أكثر من تعليم الرياضيات والعلوم"، وبرّر بينيت دعوته هذه بقوله: "لسنا قادرين على ضمان استمرار دولتنا من دون الإلمام بالتوراة. بصفتنا يهودا، لا يكفي أن نكون شعبا يتقن المعرفة بالتقنيات الناشئة، بل علينا أن نكون شعبا يعرف التوراة ويفهمها أيضا"!
الخرافة التاريخية التي أقيم عليها الكيان الصهيوني يتم غرسها في عقول ونفوس الطلبة اليهود من خلال مادتين أساسيتين هما التربية الدينية "اليهودية" والتاريخ اليهودي الذي يرمي إلى شرْعَنة الاحتلال اليهودي لفلسطين، وهاتان المادتان هما مفتاح نجاح الطلبة الصهاينة في الثانوية العامة، ولو كان الطالب متفوقًا في جميع المواد العلمية لكنه لم ينجح في هاتين المادتين، فإنه يرسب على الفور ويعيد العام الدراسي مرة أخرى.
لن يماري إلا جاهل في أن المستوى العلمي الذي حققه الكيان الصهيوني أصبح لا يمكن إغفاله، سواء من حيث عدد الكتب المطبوعة أو عدد الأبحاث المنشورة في المجلات العالمية أو عدد العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم أو عدد العلماء في التخصصات العلمية المختلفة، فالمجتمع الصهيوني وصل اليوم إلى مرحلة متقدّمة في العلوم والتكنولوجيا تشكل أساس تطوره، وهو ينتِج سنويا من البحوث العلمية والدراسات والكتب أضعاف ما ينتجه العرب جميعا، ولكن ذلك لم يمنعه من الاعتناء الشديد بمادّتيْ الديانة اليهودية والتاريخ، فضلا عن اللغة العِبرية التي تُدرَّس بها كلُّ المواد من المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الجامعية.. ومع ذلك، فإن وزير التربية يرى أن مادة "اليهودية" لم تحظ بالاهتمام المناسب في المدرسة، ويجب أن يتم الاهتمام بها أكثر من المواد العلمية!
ومن الدراسات العلمية العربية المهمة رسالة الدكتوراه التي تم مناقشتها في جامعة بنها والمقدمة من الباحث ربيع عبد الوهاب ربيع، وموضوعها: "التعليم الديني في إسرائيل ودوره في تشكيل الهوية".
وتناولت الدراسة الدور الذي يقوم به التعليم الديني في دولة الكيان من أجل تشكيل هوية الطلاب داخل الكيان، حيث تناولت مؤسسات التعليم الديني، والسياسات التعليمية
وقامت الدراسة بتحليل مناهج التعليم الديني في الكيان، وقدمت رؤية نقدية لنظام التعليم الديني، وتوصلت الدراسة إلى أن التعليم الديني هناك هو أخطر أنواع التعليم؛ لأنه يقوم على الفكر الديني الصهيوني، والذي يؤكد على العنصرية والتعصب واحتكار الآخر.
وتجمع غالبية الأبحاث والدراسات المتابعة للحالة الصهيونية في مجال التعليم على أن المناهج الدراسية تربي النشء على العنف والحقد وغرس الكراهية وتشويه صورة العرب والمسلمين بصفة خاصة، من خلال الاستعانة بالنصوص الدينية المستمدة من التوراة لإضفاء الصبغة الدينية على تلك المفاهيم التي تلعب دورا كبيرا في صياغة عقلية أولئك يمارسون القمع والعنف ضد العرب، مقتنعين بأنها عملا مقدسا لاغبار عليه.
الخبراء يؤكدون أن كتب التاريخ الصهيونية انشغلت بتعميق وغرس القيم والتوجهات العنصرية في عقول الناشئة من أبناء المستوطنين والمهاجرين اليهود، من خلال التأكيد على مجموعة من القضايا ليجعلوها مع الوقت مسلّمات عندهم، وذلك عبر عملية منظمة من التوجيه التربوي الذي روّج له قادة الاستعمار في الغرب مع مجموعة من حاخامات أوروبا، وأدباء ومفكري الصهيونية الجدد أمثال "ليوبنسكر" و"هرتزل"، وهذه التعاليم منطلقة أساسًا من المرجعيات الدينية والثقافية اليهودية والصهيونية الوضعية، والتي اتسمت بالعنصرية والعدوانية وقيم الانصياع الكامل إلى التوجهات والإرشادات والمثل الواردة في أسفار التلمود، وتعاليم الشرّاح والمفسّرين من الحاخامات دون تردد أو مساءلة للضمير والنفس البشرية للتراجع عن هذه الممارسات الوحشية غير الإنسانية وحتى بعد ظهور الأدبيات السماوية الموحدة، وانتشارها الواسع من أجل تهذيب النفس البشرية في إطار روحي سامٍ وضعه الله لبني البشر على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ..
لقد كانت هذه الأحكام والنصوص التاريخية والأخلاقية، وقوانين اليهود السياسية والمدنية والدينية، بما فيها قرارات زعماء اليهود في الثلاثة وعشرين مؤتمرًا ما بين عامي (1897 حتى 1951) ، وآخرها المؤتمر الذي انعقد في القدس لأول مرة عام 1951، ليبحث في الظاهر مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بينما كان الهدف الأساسي من هذه المؤتمرات دراسة الخطط التي تؤدي إلى تأسيس مملكة صهيون العالمية، والاستيلاء على العالم بشتى الوسائل.
هذا ما يحدث عند بني صهيون، أما عندنا في العالم العربي (أصحاب الحق في فلسطين المحتلة) فإن كثيرًا من الساسة يؤيدهم المثقفون والمفكرون والمؤرخون العلمانيون، ينادون بـ "تجفيف الينابيع"، (أي محو أي أساس ديني إسلامي يقوم عليه التعليم في المدارس والجامعات أو أية صياغة إسلامية للفكر والثقافة والإعلام، وقد كان ظهور المصطلح لأول مرة على يد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وتقوم فكرته على أن محاربة ما يسمى "الإسلام السياسي" لا يمكن أن تنجح من دون تجفيف ينابيع التدين في المجتمع، وأطلقه مطلع التسعينيات على خلفية صراعه مع حركة النهضة وزج بعناصرها وقادتها في السجون.
ثم ما لبث هذا المصطلح المشبوه أن عم أقطار عالمنا العربي والإسلامي، وأصبح يعني "اقتلاع الإسلام ذاته من الجذور"، ففي فلسطين عمل الصهاينة ويؤيدهم للأسف "حركة فتح"، على إرجاع مشكلة شيوع المقاومة (والتي يسميها الصهاينة إرهابًا)، بسبب النهج الإسلامي لحركة "حماس"، وأنه لا سبيل إلى وقف العنف إلا بتفريغ "حماس" من مضمونها الإسلامي، ولما استعصت "حماس" عن التطويع تم شن حروب الإبادة ضدها والتي أدت إلى تدمير غزة، حتى يكفر بها المجتمع الفلسطيني ولا يعيد انتخابها مرة أخرى.
وأصبح يحدث في كثير من بلداننا العربية إغلاق الكتاتيب (مكاتب تحفيظ القرآن للأطفال) بدعوى أنها تفرخ الأطفال الإرهابيين.
نفس الأمر يحدث حينما يتم التلاعب بمناهجنا الدينية والتاريخية وإلغاء فصول منها لا ترضي بني صهيون والأمريكان، ونسمع هنا أن صلاح الدين الأيوبي كان "متطرفًا" "وإرهابيًا".
المحافل الصهيونية ونشطاء بني صهيون والعلمانيون العرب يتحركون الآن في إطار واحد تجمعهم دعوة تتجاوز استئصال الحالة الإسلامية إلى محاولة استئصال الإسلام ذاته ومحو الذاكرة الإسلامية، آية ذلك أنهم يطالبون بإلغاء المواد الإسلامية من مناهج التعليم وإعادة النظر في التاريخ الذي يعتبرونه مليئا بالظلم والرجعية والخرافات وهم يدينون فكرة الافتخار بالماضي أو البكاء عليه.
ولعلم هؤلاء أنه تم في سوريا، بعد مأساة مدينة "حماة" التي وقعت عام 1982م، طرحت فكرة استئصال الحالة الإسلامية و"تجفيف الينابيع"، حيث اقترح بعض الرسميين إغلاق المعاهد الدينية وكلية الشريعة، ولكن نفرا من العقلاء قالوا إن الخطوة ستؤدي إلى زيادة التطرف والعنف ولن تعالجه، ونوقشت المسألة على أعلى المستويات وانحاز الرئيس السابق حافظ الأسد إلى الرأي الثاني وأيده بعد اقتناعه بوجاهة حجته. ولكن يبدو أننا لم نتعلم من دروس التاريخ؟