الإثنين 23 ديسمبر 2024 02:22 صـ 21 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    الانتخابات بين القائلين بحرمتها والقائلين بجوازها

    رابطة علماء أهل السنة

     الصورة التي تتم بها الانتخابات المعاصرة لم تكن من الصور المعروفة في القديم، ولكنها صورة مستحدثة، وقد تباينت آراء العلماء في حكم الانتخابات، وهذا ما سنوضحه في الكلمات التالية: 

    القائلون بعدم الجواز: وقد ذهب فريق من العلماء إلى القول بعدم الجواز، ومن هؤلاء: محمد رأفت عثمان، وصالح الفوزان، والألباني... وغيرهم، وهو القول الذي تبناه التيار الجهادي المسلح من الحركة الإسلامية، وكذلك جمهور التيار السلفي، وكذلك حزب التحرير في الأردن وغيرها. 

    القائلون بالجواز: أما القول بالجواز فهو قول جمهور الفقهاء المعاصرين، ومنهم: محمد رشيد رضا، وحسن البنا، ومحمد أبو زهرة، وأبو الأعلى المودودي، وعبد القادر عودة، وعبد الكريم زيدان، ويوسف القرضاوي، ومحمد أحمد الراشد، ومنير البياتي، ومحمد سليم العوا، ومحمد أبو فارس، وأجازها كذلك ابن عثيمين كما هو مبثوث في بعض شرائطه في موقعه، وقالت بالجواز اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية، وجاء ذلك في فتوى وقّع عليها كل من: عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن غديان، وعبد الله بن قعود. وعلى مستوى الجماعات تبنت جماعة (الإخوان المسلمون) هذه الآلية، وعملت جاهدة على المشاركة في الانتخابات منذ مرشدها الأول، وشملت هذه الآلية ما يعرف بالمجالس النيابية والتشريعية والمحلية، كما شملت النقابات والاتحادات الطلابية، وامتد الأمر ليشمل الجماعة على المستوى المحلي والعالمي، حيث شاركت الجماعة في العديد من الدول في الانتخابات؛ كالأردن وفلسطين والكويت والبحرين والجزائر... وغيرها من الدول الإسلامية. 

    سبب الخلاف: وسبب الخلاف يكمن في عدة أمور: 

    حداثة الصورة والآلية التي يتم الاقتراع فيها. 

    الخلط بين الانتخابات كآلية وبين الديمقراطية كمنظومة فكرية. 

    شيوع الفساد بين القائمين على العملية الانتخابية، والممارسين لها. 

    ما يصاحب العملية الانتخابية من مفاسد قد تضر أحيانًا، كما في المناطق التي تقوم على العصبية العرقية أو الدينية... 

    فمن رأى الآلية جديدة حادثة، تحوي مضارَّ في جريانها وإتمامها، وأنها خرجت من رحم الديمقراطية، التي في نظره تخالف الإسلام، ذهب إلى تحريمها. ومن فرق بين المنظومة الفكرية وآلياتها ووازن بين المضار والمكاسب، والمفاسد والمصالح، والمفسدة الكبيرة والمفسدة الصغيرة، وأعمل القواعد الفقهية قال بالجواز. 

    أدلة القائلين بعدم جواز العملية الانتخابية: وأدلة القائلين بالمنع تتلخص فيما يلي: 

    1 ـ كونها عملاً لم تعرفه الأمة في القديم، ولم يقدم عليه سلف الأمة:  وهذا قول مردود، لأن أمر الانتخابات من أمور العادات، وهو من شؤون الحياة المدنية، والأصل في هذه الأشياء الإباحة، ولو احتاج السلف إلى ذلك لفعلوه؛ بل إنهم فعلوه في صورة شبيهة بذلك، وسيأتي. 

    2 ـ كونها آلية من آليات النظم الديمقراطية، التي تعارض الشريعة في الأصل: وهذا قول مردود؛ لأن المسلمين - وفي الصدر الأول - اقتبسوا من غيرهم ما يصلح حياتهم وشؤونهم، كنظام الدواوين والبريد، وغيرها... 

    3 ـ كونها تقوم على اعتبار الأكثرية، وهو مبدأ ذمه الإسلام: واستشهد هؤلاء بآيات القرآن كما في قوله تعالى: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" (الأنعام ـ 116). وقد رد القرضاوي ذلك بقوله: إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح، والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد. 

    ثم شرع القرضاوي في بسط الأدلة التي تعتبر الأكثرية، وذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم[Footnote]". وكما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأكثرية في بدر وأحد، وغيرها من الأحداث. 

    4 ـ كونها تساوي بين صوت العالم والأمي: والحق أن مبدأ التفريق بين أصوات وأخرى أمر يصعب ضبطه، وإلا فما هو الحد الأدنى من العلم؟ وما هو المقياس الذي يقاس به؟  كما أن الأمور المهمة التي تجري فيها الانتخابات إنما تتعلق بالأمور العامة والخاصة، فكيف نقبل ممارسة البعض دون البعض، وقد ورد مشاركة العامة في اختيار ولاة الأمر، كما فعل ابن عوف في اختيار عثمان رضي الله عنهما... 

    5 ـ كونها شهادة يقبل من خلالها شهادة أهل العدالة وغيرهم: 

    ويرد على ذلك بأنه لا مانع من التجاوز في شروط العدالة، وهذا حاصل في كثير من الأمور المتعلقة بالشهادة، بل هذه الشروط اتفق الفقهاء على تغير بحسب الزمان والمكان والأشخاص، كما أن العملية الانتخابية ليست شهادة من كل الأوجه، وإنما تعتبر كذلك وكالة، ولا يشترط في الوكيل ما يشترط في الشاهد. 

    6 ـ أن القبول بالعملية الانتخابية وسيلة لرمي للشريعة بالنقص لكونها لم تأت بهذه الوسيلة: وهذا أمر لا نوافق عليه، لأن الشريعة الإسلامية لديها من عوامل السعة والمرونة ما يجعلها قادرة على اقتباس كل نافع صالح؛ ما لم يتعارض مع نصوص الشرع، وهذا من عوامل صلاحها لكل زمان ومكان. 

    أدلة القائلين بالجواز: رد القائلون بجواز العملية الانتخابية بما بيناه سابقا، كما استدلوا بأدلة أهمها: 

    1 ـ أن الأصل في الأشياء الإباحة. 

    2 ـ أن الانتخابات من أمور العادات، فلا بأس من التجديد والابتكار فيها. 

    3 ـ أن العملية الانتخابية تشبه البيعة؛ في كونها تعني الرضا عن الشخص المبايع أو المنتخب. 

    4 ـ أن المسلمين اقتبسوا من غيرهم كثيرًا من النظم والوسائل والأساليب التي لا تخالف الشريعة، وقد أقر العلماء بذلك. وقد سبق ذلك أخذ فكرة الخندق وتدوين الدواوين وضرب العملة، وغيرها من الوسائل والنظم المدنية التي لا تخالف نصًّا من نصوص الشرع. 

    5 ـ أن طريقة اختيار الحاكم وما يلحق به لم يأت دليل بحصرها في آلية معينة، وإنما تركت لاجتهاد الناس؛ حسب زمانهم ومكانهم بما لا يخالف نصًّا. 

    6 ـ اعتبار هذا النظام الآن في الكليات الشرعية، والجامعات الإسلامية، والمجامع الفقهية، دون إبداء اعتراض من ذوي الاختصاص الشرعي، فكيف يقبل في مكان ولا يقبل في آخر؟! 

    7 ـ أن العملية الانتخابية إن خلصت فيها الطوايا تدخل في التعاون المشروع الذي أمر به الحق سبحانه في قوله:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(المائدة:2). 

    8 ـ أن العملية الانتخابية إن صلحت فيها النوايا فهي تدخل كذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي أمرت بها الأمة في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران: 104)، والتي هي سبب خيرية هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران: 110). 

    9 ـ أن العملية الانتخابية إحدى وسائل التغيير الممكنة التي حضت عليها الشريعة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، (وطالما أن الدعاة أهل حرص على تقليل الشر في المجتمع والدولة، وأن البرلمان هو أحد أدوات التأثير والتنفيذ العملي لخطة كبت الشر بالمقدار الممكن: جاز لهم الترشيح في الانتخابات البرلمانية. 

     10 ـ إذ من خلال العملية الانتخابية يمكن تحقيق بعض المصالح ودرء العديد من المفاسد، والشريعة الإسلامية قائمة لتحقيق مصالح العباد. 

    11ـ نشر دعوة الله، وإفهام الناس أن دين الله ليس مجرد اعتقاد بين العبد وربه، أو عبادة يؤتى بها العبد صباح مساء، وإنما نبلغ الناس كل الناس أن (الإسلام نظام شامل ... يتناول مظاهر الحياة جميعا .. فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة و ثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء. 

    12 - استعداد الناس لقبول الفكرة الإسلامية، وأنهم إذا حيل بينهم وبين التزوير والترهيب، وأعطيت لهم الحرية لاختيار من يريدون لاختاروا من يقودهم بكتاب الله تعالى، يقول محمد أحمد الراشد: (والذي يشجع على ما قلناه أن الله أودع فطرة سليمة في الناس، فإذا كانت الانتخابات حرة وسبقتها دعاية إسلامية كافية ومواعظ ونشر فكري فإن التصويت لا محالة للتيار الإسلامي.... إذ عبر هذه الممارسة سيتأكد الطريق الحر لاحقًا وبالتدرج. 

    13 ـ يمكن للاستدلال على الجواز بما ورد من الأدلة الشرعية، والتي منها: 

    أ ـ قوله صلى الله عليه وسلم: " أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ"، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ. وآلية الانتخاب والاختيار واضحة هنا، حيث جاء الأمر بها صراحة. 

    ب ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم"، وتعيين أحد الثلاثة أميرًا لا يكون إلا بإجماعهم عليه، أو بالأغلبية، اثنان مقابل واحد، وهذا انتخاب في صورة مصغرة، وعمل جماعي منظم في سفر مؤقت، واجتماع طارئ. قال ابن تيمية: فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر؛ تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ووجود مثل هذا التأمير لا يكون إلا باختيار وانتخاب. 

    ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين وافقوا يوم حنين على رد أموال هوازن إليها، ورضي الصحابة بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في تأكيد الرضا:"إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ: أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا". 

    د ـ قوله صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة: "اختاروا من أصحابي من أردتم، فلنستمع لقوله: فاختاروا سعدًا"، وقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاختيار كآلية لإيجاد الحكم. 

    ه ـ ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(الشورى: 38)، ووجه الدلالة: (أن الله أمر الأمة بالشورى، وحث عليها، ومن أهم الأمور التي تجري فيها الشورى: مشاورة الأمة فيمن يحكمها أو يمثلها، والوسيلة التي من خلالها يتعرف على أفراد الأمة هو الانتخابات. 

    13 ـ الاستدلال بالقواعد الفقهية التي تحتم الدخول في العملية الانتخابية، ومن هذه القواعد: 

    ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن خلال المشاركة الفاعلة يمكن تقليل الشر الواقع في الأمة، وفي مقدمة هذه الشرور الحيلولة بين شرع الله وخلق الله. 

    الضرر الأشد يزال بالأخف، وحيث إن الانتخابات قد يتحقق من خلالها بعض الضرر إلا أنه يمكن دفع ضرر أكبر من خلال هذه الانتخابات، وخصوصا إذا عمل الإسلاميون على بقاء النماذج الوطنية الفاعلة وإزاحة العصبة الفاسدة المفسدة. 

    اعتبار الذرائع والنظر في المآلات، حيث ترك العملية الانتخابية برمتها يسمح بوجود أبالسة الإنس الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. 

    الأمور بمقاصدها، وهذا يوجب استحضار النية دائمًا، وإخلاص العمل لله سبحانه. 

    الخلاصة: أن العملية الانتخابية في شتى مناحي الحياة أمر لا مانع من ممارسته شرعا، طالما حقق للأمة مصلحة، أو دفع عنها مفسدة، ولا شك أن الاختيار الحرّ يحقق للأمة كثيرا من المصالح في مقدمتها: اختيار الأكفأ والأحسن والأجدر والأعلم، وإبعاد الظلمة والمستبدين الفجرة.