الجمعة 27 ديسمبر 2024 09:11 صـ 25 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    الفكر المقاصدي وتفعيله في الواقع الثوري المعاصر

    رابطة علماء أهل السنة

    دخلت المنطقة العربية ـ بل العالم كله ـ في واقع جديد، ومرحلة جديدة، تنتقل فيها من حكم الفرد إلى حكم الأمة، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الدكتاتورية إلى التعددية، ومن تحكيم قوانين البشر الوضعية في واقع الأمة إلى تحكيم شريعة مَن يعلم مَن خلق، وهو اللطيف الخبير؛ إذ أشرق عليها ربيع الثورات بجراحات المجاهدين الأحرار ودماء الشهداء الأطهار التي لا تنبت الأرضُ بدونها إلا الخور والضعف والتقهقر والتخلف!
    ولقد كان الداعي إلى قيام هذه الثورات هو استرداد كرامة الحياة والأحياء، ورفض ما يحاك ضد البشر في هذه الأوطان من امتهان وظلم وإفساد ونهب للأموال الخاصة والعامة، والتعدي على الآخرين بغير حق، بما يمثل استردادا لمقاصد الإسلام العليا والحفاظ عليها، فصبّت أهداف  هذه الثورات مباشرة في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، بالإضافة للمقاصد العالية أو المفاهيم التأسيسية مثل: الحرية، والمساواة، والكرامة الإنسانية، والأمن الفردي والجماعي والاجتماعي، وتحقيق العيش الكريم( )؛ حيث مثَّل إهدار مقاصد الشريعة السبب المباشر لإشعال الثورات العربية في المنطقة كلها( )، فكانت هذه الثورات المعاصرة في خدمة المصالح والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية.
    وينبغي ألا تغيب عنا هذه الغايات في حراكنا العملي الواقعي المتمم للثورات، سواء في البلاد التي لا زالت تتلظى بنيران المستبدين، أو تلك البلاد التي تخلصت من فراعنتها، وما زلنا في طريقنا لتكميل أهداف ما قمنا من أجله على الوجه الذي يحقق مراد الله منا في هذه الحياة.
    أقول هذا بمناسبة الأجواء "الرمادية" التي نحيا فيها أوقاتًا كثيرة في بعض البلدان التي قامت فيها ثورات؛ حيث نرى مساحات وأوقات ضبابية لا تتضح فيها الرؤية، وتغيب فيها "البوصلة" بفعل المكائد والمؤامرات التي يحيكها أذناب الأنظمة الطاغية الظالمة، والتي ليس من السهل عليها ترك مناصبها ومكاسبها التي كانت تتمتع بها في غيبة من وعي الأمة، وحسبنا أن الله تعالى عبَّر عن ذلك بكلمة "ينزع" الملك، في قوله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء..". سورة آل عمران: 26. وفي ذلك من دلالة التمسك بالملك والحرص عليه ما لا يخفى.
    وفي هذا من الآثار السلبية ما فيه؛ حيث يصاب كثير من قطاعات المجتمع بالإحباط، وتداهمهم مشاعر الريبة والشك، ويخامر خواطرَهم وهواجسهم ظنونٌ وأحاديثُ نفسٍ وخاطر بالندم على ما جرى، ولا شك أن هذه المشاعر والهواجس كلها قاصرة لا ترقى إلى أن تضع نفسها في مرتبة الوعي بالتاريخ والواقع، ولا أن تكون قادرة على ملاحظة الغايات والمقاصد العليا التي قامت من أجلها هذه الثورات.
    إن الغايات التي قامت الثوراتُ من أجلها، وقدمت الأمة من الشهداء والجرحى ما قدمت، لا يصح ـ بل لا يجوز ـ أن تغيب عن الوعي الجمعي في المجتمع، فينبغي أن تُظلِّلَ تحركاته، وتؤثر في اختياراته، وتنظم سيره، وتضبط حركته؛ ليكون سيره وفكره على هدى ونور: "أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ". سورة الملك: 22. وذلك لأن في رعاية الفكر المقاصدي وتفعيله آثارًا وفوائد بالغة الأهمية والدقة والخطورة، ونذكر منها ما يلي:
     

    1.رعاية المقاصد تضبط الرؤية وتُقوِّم الاختيارات:

    ولهذا كان من الأهمية بمكان أن نراعي المقاصد التي قامت من أجلها الثورات؛ لأن في اعتبارها وتفعيلها ورعايتها ضبطًا للرؤية؛ حيث تعصم العقل الجمعي من الوقوع في براثن التخبط ومهاوي التشتت وضبابية الرؤية؛ وذلك لأن التعلق بالهدف واستحضاره دائما يضمن صحة الاختيارات، وصوابية التصور، ويتحكم في الاختيارات التي نختارها، ويضبط المسار الثوري دون ميل عنه أو حيد إلى جهة اليمين أو الشمال.
    فلا يمكن لراعي المقاصد وملاحظها أن يختار اختيارا خطأ، أو يستمر مع اختيار خطأ إن وقع دون تصحيح وتقويم بحيث يستقيم الاختيار مع الهدف الموجود والمقصد المرصود؛ لأن ملاحظة المقصد تصحح استخدام الوسائل وترشد الاختيارات وتقوم الرؤية وتضبطها في مسارها الثوري الصحيح.

    2.رعاية المقاصد توحد الصف وتسرِّع في تحقيق النتائج:

    ومن الفوائد المهمة في تحكيم المقاصد في الواقع الثوري ــ وكل واقع وكل فكرة وكل عمل ونشاط ــ أنها توحد الصف الثوري، بل الصف الدعوي والعملي؛ لأننا متى اتفقنا على الهدف فلن يكون بيننا خلاف؛ إذ غياب الهدف أو المقصد يحل محله النزاع والخلاف وسعة الفجوة والهوة بين التيارات، ويحل محل الهدف الأهواء الشخصية، والمآرب الحزبية، والمصالح الذاتية، والفتنة الطائفية، ويدور كل فريق حول تحقيق مصالحه الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة التي يجب أن تقدم وتُصدَّر، ويكون لها الاهتمام، وعليها التركيز بعيدا عن تحقيق المآرب الشخصية واتباع الهوى.
    كما أن من شأن استحضار الغايات والمقاصد دائما أن يعمل على تحقيق النتائج والأهداف المرصودة بأقل جهد وأقل تكلفة وأسرع وقت؛ إذ الذي يغيب عنه هدفه يتخبط هنا وهناك، ويصبح فريسة لسبل الشيطان وطرق الأبالسة من الجن والإنس، ويضل ضلالا بعيدا، وقد قال الله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". الأنعام" 153. 
    وعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ خطًّا، ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطًّا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سبل ـ قال يزيد ـ متفرقة، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ {إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}( ).
    إن الذي يسير في طريق وعينه على نقطة الانتهاء يختلف اختلافا كبيرا وجذريًّا عن الذي يسير على غير هدى ولا هدف ولا مقصد، الأول سيختصر المسافات، ويصل إلى غايته في أقرب وقت وبأقل جهد ومال، والثاني ستتخبطه السبل في مهاوي الشياطين، ويصبح فريسة للجزئيات والجدال والتنازع الذي يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح: " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". الأنفال: 46.
     

    3.رعاية المقاصد تحفظ النسيج الاجتماعي وتحول دون الاستقواء بالخارج:

    ومن أهم الفوائد التي تتحقق برعاية المقاصد في واقعنا الثوري المعاصر أنها تعمل على حفظ النسيج الوطني والاجتماعي من التحلل والتفسخ والاهتراء؛ إذ إن تحكيم الأهداف العليا والمقاصد الكبرى والمفاهيم التأسيسية يحفظ القوى الوطنية السياسية، والنخب الثقافية من التنازع، كما أن ذلك يقضي على النعرات الطائفية التي نراها في بعض البلدان التي تجري فيها ثورات، وهذا النعرات هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق المجتمع، وتهدد استقراره، وتبدد سلامته، ويحل التنازع والفرقة والخلاف والتشرذم محل التفاهم والتعاون والوحدة.
    كما أن رعاية أهداف الثورة تحمل أصحابها على حفظ أمن المجتمع وسلامته، وأن تتكون مناعة ضد أي تدخل خارجي طامع، وإنما تأتي عمليات الاستقواء بالخارج ـ وهي خيانة دينية ووطنية وسياسية ـ حين يغيب الهدف، وتتحكم الأطماع الشخصية والمصالح الذاتية المحدودة التي لا ترى إلى ذاتها، ولا تنظر إلى تحت أقدامها.
    وهذا سبب كبير لما نراه في بعض البلاد التي سقطت أنظمتها الطاغية الظالمة؛ حيث تتعدد الرؤى، وتتنوع الأهواء، وتتباين المصالح الشخصية، وتتعارض المآرب الحزبية؛ فيحدث الصدام، ويكون الصراع، ونسمع بقوى غير وطنية تنادي بتدخل الغرب الطامع في بلادنا؛ ليبني أمجاده ويحقق أطماعه على سُلَّم الجماجم وآلام الجرحى ودماء الشهداء!.
     

    4.رعاية المقاصد تعين على التحديد الصحيح للمآل:

    من الأمور الخطيرة وبالغة الأهمية في تصرفاتنا جميعًا أن نراعي المآل الذي سيؤول إليه الفعل أو التصرف، وإذا كان هذا في التصرفات والأفعال العادية خطيرًا، فإنه يبلغ من الخطورة منتهاها إذا كان في واقع ثوري كالذي تحياه الأمة اليوم.
    فكم من مصيبة حدثت وكان سببها عدم رعاية المآل، وكم من أرواح أزهقت، ودماء سالت، وجراحٍ جرحت، لو راعينا مآل فعلنا أو نتيجة تصرفنا لما وصل الحال إلى ما وصل إليه؛ ولهذا فإنه من الذكاء والفطنة وتمام الحكمة أن ننظر إلى مآل الفعل قبل اختياره والتلبس به.
    ولقد تنبه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات وأهمية اعتبارها فقال في كلام مفصَّل منضبط: "النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ.. ولكنّ له مآلًا على خلاف ما قُصِدَ فيه. وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلًا على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة"( ).
     

    5.رعاية المقاصد تضبط الموازنة بين المصالح والمفاسد:

    ليس الفقيه من عرف المفسدة من المصلحة، وإنما الفقيه هنا من جلب أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفهما.
    ومن الفوائد المهمة التي نستثمرها من تفعيل المقاصد في الواقع الثوري المعاصر، وكل واقع، أنها تضبط الموازنة في الاختيار بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبخاصة أن واقع الثورات يحكمه ـ في أغلب أحكامه واختياراته ـ مبدأ المصلحة والمفسدة، فبتحكيم المقاصد ورعايتها في التفكير والحركة والاختيار يمكننا أن نختار المصلحة ونرفض المفسدة، ونختار أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وندفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما.
    وهذا ما تواتر القول به في ضوء فهم نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة عند العلماء الذين أفاضوا في الحديث عن هذا، مثل: ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد السلام، والشاطبي، وغيرهم( ).
    فالواقع الثوري المعاصر وغيره لا يخلو من مصالح ومفاسد، ومن وجود مصلحتين، ومن وجود مفسدتين في كل اختيار وكل قضية، فنجلب المصلحة وندفع المفسدة، ونحصل أعظم الخيرين، وندفع شر الشرين.. والذي يحكم ذلك هو اعتبار المقاصد وتفعيل الفكر المقاصدي، فملاحظته تبين أي المصلحتين أكبر فنحصلها، وأي المفسدتين أقل فنرتكبها.
     

    6.رعاية المقاصد تحدد الأولويات "ما يقدَّم وما يؤخَّر":

    لكل واقع أولوياته، ولكل مؤسسة وكيان وهيئة ما يجب أن يقدَّم وما يجب أن يؤخَّر، وإن الناظر في أحكام الإسلام، وفي كل مجالاتها وأبوابها الفقهية والخلقية والعقدية يجد فيها الأهم والمهم، والواجب والفرض، والمندوب والمستحب، والمكروه والمحرم وهكذا.
    ولقد قرر القرآن الكريم أن الأعمال ليست سواء، قال سبحانه: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ". التوبة: 19.
    وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإيمان شعبا منها أعلى ومنها أدنى، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان"( ).
    ومن الفوائد الجليلة التي تؤديها رعاية المقاصد في كل عمل وكل قول أنها تضبط مسار اختيار الأولويات، فقد نختلف على تصرف أو عمل ما في واقع معين أنه الأولى الآن، أو هو واجب الوقت، ولكن حين نستحضر المقاصد ونستدعي الغايات ينضبط الميزان وتصح الموازنة، ونختار التصرف الأولى وفق التصور المقاصدي الذي يرشحه الواقع ويضبطه الشرع.
    فمتى أدرك الشاب أولويات دينه، وأولويات واقعه فلن يقدم على أعمال ليست من واجب الوقت؛ فضلا عما من شأنه أن يزعزع أمن المجتمعات مثلا، ويهدد سلامتها، ويسفك دماءها، أوة يؤخر عملية الإصلاح والبناء.