تجلي معاني الوحدة في موقف المرابطين من الخلافة العباسية!
رابطة علماء أهل السنةاعترف المرابطون بالخلافة العباسية، واتخذوا السواد شعارا لهم، ونقشوا اسم الخليفة العباسي على نقودهم منذ منتصف القرن الخامس الهجري. وبعد أن بسط الأمير يوسف سيادته على الأندلس طلب منه الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة، لتجب طاعته على الكافة، ونزولا عند رغبتهم اتصل بالخليفة العباسي أحمد المستظهر بالله 487 ـ 512 هـ/1118 م وأرسل إليه بعثة عليها عبد الله بن محمد بن العربي، الإمام المعروف، وزودها بهدية ثمينة، وبكتاب يذكر فيه ما فتح الله على يده من البلاد في المغرب والأندلس، وما أحرزه من نصر للمسلمين وعز للإسلام، ويطلب في النهاية تقليدا بولاية البلاد التي بسط نفوذه عليها؛ وأدت البعثة مهمتها بنجاح، فتلطفت في القول، وأحسنت الإبلاغ، وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده للأمير يوسف بن تاشفين، الذي سر بذلك سرورا عظيما. (دولة المرابطين ص 157)
لقد كانت دولة المرابطين من الناحية العملية تستطيع أن تستغني عن الخلافة العباسية الضعيفة، حيث إن السلطان لا يملك من السلطة إلا اسمها، بل كان الأمير يوسف أكثر قوة منه، يملك ويحكم، ولكن حبهم لشريعة الإسلام وحرصهم على تنفيذ أحكام الله في أسوأ الظروف جعلهم يتقيدون بذلك. لقد كانت توجيهات القران الكريم في وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق واضحة المعالم بالنسبة إليهم، ولقد كانت أحاديث رسول الله ﷺ في هذا المضمار هي التي أرشدتهم للانضمام للخلافة العباسية الضعيفة، قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا...﴾ [ال عمران: 107]. وقد ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ولا تكونوا كالَّذين تفرَّقوا واختلفوا﴾ [سورة آل عمران:105]، ونحو هذا من القرآن، أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفُرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله».
والأحاديث في هذا الشأن كثيرة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من فارق الجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية». والمراد بميتة الجاهلية -وهي بكسر الميم- حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس لهم إمام مطاع، لأنه كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرا، بل يموت عاصيا. لقد ذهب علماء المرابطين إلى أن الجماعة المقصودة في الحديث جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، موافق للكتاب والسنة. (د. جمال أحمد، وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، ص 97)
هذا في نظري سبب دخول المرابطين تحت الخلافة العباسية، وأما ما ذكرهُ المؤرخون أن من أسباب ذلك بعدهم عن العباسيين، ولذلك كانوا لا يخشونهم خاصة بعد أن تطرق إليهم الفساد، ودب الضعف فيهم، وهي لا تشكل أي خطر عليهم، فإني أستبعد ذلك، حيث إن سياسة قادة المرابطين تقاد بالشرع، وليس العكس، فهم إسلاميون سياسيون وليسوا سياسيين إسلاميين في علاقاتهم الخارجية وشؤون دولتهم الداخلية وارتباطاتهم الدولية.
ولا شك أن الخلافة العباسية دخلها سرور عظيم، وكسبت مكسبا معنويا كبيرا بدخول دولة المرابطين تحت خلافتها؛ ولذلك حرص الخليفة على أن يرد بنفسه على خطاب ابن تاشفين حيث كتب سبعة وثلاثين سطرا جاء فيها: «عرضت هذه القصة بمفاوز العز والعصمة، ومواقف الإمامة المطهرة المكرمة، زاد الله جلالها، وسبوغ ظلالها، فخرجت المراسم الشريفة بأن ذلك الولي الذي أضحى بحبل الإخلاص معتصما، ولشرطه ملتزما، وإلى أداء فروضه مسابقا، وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق من الولاء، طويل نجاده، إذ كان من غدا بالدين تمسكه، وفي الزيادة عنه مسلكه، حقيقا بأن يستتب صلاح النظام على يده، ويستشف من يومه حسن العقبى من يليه من الكفار وإتيان ما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، اتباعا لقوله تعالى: ﴿قاتلوا الّذين يلونكم من الكفَّار﴾ [سورة التوبة:123]. فهذا هو الواجب اعتماده الذي يقوم به الشرع، وأن يؤلف شمل من في جملته من الأنجاد على الطاعة الإمامية، التي هي العروة الوثقى والذخر الأبقى، واستقراه قوله تعالى العمل به، والبدار إلى التشبث بسببه: ﴿يا أيُّها الَّذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [سورة النساء:59]. وليكن دأبه الجهاد فيما يكسب عند الله الزلفى، ويمنحه من رضاه القسم الأكمل الأوفى: ﴿يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خير مُحضراً وما عملت من سوءٍ تودُّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً﴾ [سورة آل عمران:30] وأن يختص رافعها وولده بالإرعاء الذي يضفو عليهما برده، ويصفو لهما ورده، وليظهر عليهما من المهاجرة جميل الأثر، ويؤول أمرهما فيما يرجو أنهما إلى استقامة النظام وضم النشر، فليقابل الأسنى في ذلك بامتثال واحتذاء مطاع المثال إن شاء الله». (دراسات في تاريخ المغرب ص 478)
لقد استطاعت دولة المرابطين أن تكون سندا قويا معنويا للخلافة العباسية السنية وبذلك تكون نفذت أوامر ربها، واسترشدت بتوجيهات نبيها، فأصابتها بركة ذلك من سمعتها العالمية في ديار المسلمين، وأصبحت جزءا من الخلافة العباسية التي اكتفت منها بالطاعة المعنوية، وبذلك تحصل أمراء المرابطين من اعتراف الخلافة العباسية بدولتهم، حيث إن المرابطين كانوا يعتقدون اعتقادا راسخا أنه لن يعتبر ملكهم مشروعا إلا إذا باركته الإمامة القرشية العباسية.
واختلف المؤرخون في زمن اتصال المرابطين بالخلافة العباسية؛ فابن الأثير يقول: إن أول اتصال بين المرابطين والعباسيين قد حدث عقب انتصار الزلاقة واستيلاء يوسف على الأندلس، ويتفق مع ابن الأثير في هذا الرأي كل من ابن خلدون والقلقشندي والذهبي. (تاريخ المغرب والأندلس، د. حمدي عبد المنعم ص 237)
وأنا أميل إلى أن اتصال المرابطين كان قبل ذلك بكثير، حيث إن واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين، الفقيه أبو عمران الفاسي القيرواني، من أتباع العباسية، وكل الفقهاء الذين من مدرسته سنيون مالكيون، وبذلك يكون زعماء المرابطين ساروا على ذات التعاليم السنية المالكية.
ونجد أن نقود المرابطين قد نُقشت عليها أسماء الخلفاء العباسيين منذ عام 450 هـ، أي منذ عهد الأمير أبي بكر بن عمران، وظل اسم الخليفة العباسي يذكر مقرونا باسم أبي بكر بن عمران إلى أن توفي عام 480 هـ وخلفه يوسف بن تاشفين، فذكر اسمه على السكة مع اسم الخليفة العباسي، وهذا يدل على صلة المرابطين بالعباسيين قبل الزلاقة، ولا شك أن كتابة اسم الخليفة على عملة المرابطين تم بعد اتصالهم بالخليفة العباسي، وبعد أن تلقوا منه إجابة بقبول طاعتهم وتقليدا بولايتهم. (تاريخ المغرب والأندلس ص 236).