أين “داود أوغلو” من فلسفته السياسية؟!
الدكتور عطية عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةمن حقّ كل أحد أن يكون له مذهبه السياسيّ، ما دام يرمِي إلى الإصلاح لا الإفساد، ومن حقّ كل عضو في حزب أن يغادره إلى غيره أو إلى استقلال محض، ما لم يكن على وجه التشاحن السياسيّ الذي تضيع معه مصالح الجماهير؛ وعليه فإنّه من حقّ البروفيسور “أحمد داود أوغلو” أنْ يؤسس حزبًا سياسيًّا يعبّر فيه عن مذهبه السياسيّ، الذي أعلن أنّه يختلف عن العدالة والتنمية، ويتسامى عليه برؤيته الاستراتيجية، ومن حقّه كذلك -إذْ اختلف مع رئيس حزب العدالة والتنمية “رجب طيب أردوغان”- أن يغادر ذلك الحزب إلى حزبه الجديد، لكنْ: أَيَكون من حقّه أن ينقلب على مبادئه التي أعلنها في كتبه ومقالاته؛ فيُربك الجماهير، ويُبَدّد سلامها النفسيّ، ويُزلزل قناعاتها الفكرية؟ والسؤال هنا: ينصبُّ على الجانب الأخلاقيّ لا القانونيّ، ولا سيّما أنّ الفلسفة السياسية التي كتب عنها لا تهمل الجانب الأخلاقيّ، ولا تُقِرُّ “الميكيافيللية” المدانة أخلاقيًّا.
أهو انقلاب على المبادئ أم وقوف على الرأس؟
ولأحمد داود أوغلو -سوى “الفلسفة السياسية”- كُتُبٌ غاية في الأهمية لكل ساعٍ إلى إنجاز حضاريّ كبير، أهمّها كتابه الشهير “العمق الاستراتيجي”، وكتابه الآخر “العالم الإسلاميّ في مَهَبّ التحولات الحضارية”، والحقّ يقال: إنّ هذه الكتب غاية في الرقيّ العلميّ والمنهجيّ، وإنّ أمّتنا لفي حاجة إلى مثال هذا الخطاب، وعندما كنت أطالعها -ولا سيّما “العمق الاستراتيجي”- كنت أشعر وكأنّه يُدَوّن بقلمه سياسة “أردوغان”، فهل هذا التحوّل جاء دعمًا لمبادئه التي أعلنها في كتبه؟ أم إنّه جاء في سياق الانقلاب على المبادئ؟ فلقد وضع الرجل في كتابه (العمق الاستراتيجي) رؤية تَعْبُر فوق الأتاتوركية المتقزمة إلى آفاق التوسع الجيوسياسيّ والجيوثقافيّ والجيواستراتيجيّ، وتربط جغرافية البلاد بعمقها التاريخيّ وبعدها الثقافيّ؛ فهل هو اليوم يرمي إلى تحقيق ذلك؟
هل هو بانضمامه إلى الطاوله السداسية ودعمه لزعيم حزب الشعب الجمهوري “كمال كليتشدار أوغلو” يقترب من حُلمه في العمق الاستراتيجيّ؟ وهل الأخير الذي يتبَنّى الأتاتوركية بأظلافها وأظفارها وأشعارها، والذي يرى “الاستقلال” هو انقباض تركيا على ذاتها وتقوقعها داخل حدودها الجغرافية الأتاتوركية، ولا يعطي قيمة لاستقلال الإرادة السياسية ولا للخلاص من التبعية؛ هل هذا الشخص هو الأنسب لتحقيق رؤية داود أوغلو في العمق الاستراتيجيّ؟!
يا أيها البروفيسور “الأربكانيّ”، ها أنت تقول في (العمق الاستراتيجي) “ولذلك فإنّ النخبة السياسية التي لا تثق بشعبها ولا تستمد قوتها منه، ولا تتكامل مع ثقافة المجتمع الذي خرجت منه لا يمكن لها الانفتاح على الآفاق العالمية في ما وراء حدودها، ولا يمكنها تحقيق أمن شعبها ووحدته”؛ فهل ترى أنّ “كليتشدار أوغلو” يثق بثقافة هذا المجتمع الذي يسعى لحكمه ويتكامل معها؟ وهل تراه سينطلق من هذا العمق الثقافيّ لبناء سياسة خارجية تمضي على ثقة كما يفعل “أردوغان”؟ وسيحفظ لبلده سلامًا داخليًّا ووحدة اجتماعيّة؟ إن كنت تراه كذلك فامض في طريقك ولا تلتفت إلى وساوسي، ولا تكترث بآلاف الانتقادات التي تلاحقك مع كل تصريح لك.
وها أنت تضع في الكتاب ذاته هذه المعادلة الصعبة “معادلة قوة الدولة” على هذا النحو: قوة الدولة = المعطيات الثابتة (جغرافيا + تاريخ + عدد سكان + ثقافة) + المعطيات المتغيرة (اقتصاد + تكنولوجيا + قوة عسكرية) كل هذا مضروبًا في (ذهنية استراتيجية + خطة استراتيجية + إرادة سياسية)؛ فهل أنت اليوم ترى أنّ الذهنية الاستراتيجية والإرادة السياسية المستقلة واستصحاب العمق الثقافي والانطلاق من العمق التاريخيّ؛ هل ترى هذه المقومات كلّها يَسْعَد بها ويَبِيت في أحضانها كليتشدار أوغلو وحزبه بينما لا يدنو من تُخومها أردوغان وجماعته؟! إنْ كنت ترى ذلك حقًّا فانطلق إلى غايتك غير عابئ بنا، ولا بجميع من ألقوك اليوم في سلة المهملات السياسية، أمّا حديثك في كتابك الآخر عن علاقة النظام العالميّ الآن بالشرق الإسلاميّ، فعليك أن تنساه؛ لأنّ حليفك لا شأن له به.
هذه التصريحات سياسية أم كوميدية؟
ما أكثر التصريحات التي يفاجئ بها الرجل جماهير تركيا! أغلبها يثير في نفوس الناس الاستهجان والامتعاض بل والسخرية أحيانًا، لكنّ تصريحه الأخير ذاك يكاد الشعب يستلقي على ظهره ضاحكًا ومستضحكًا من غرابته! فلقد قال بصدد الموازنة بين أردوغان وكليتشدار أوغلو: “إنّ الحاكم الكافر إذا كان عادلًا خير من الحاكم المسلم إذا كان ظالمًا”! ولا أحبّ أن أقف كثيرًا عند تعليقات البسطاء الذين قالوا إنّه بهذا يعترف بأنّ كليتشدار أوغلو كافر؛ لأنّه ليس من العقل أن نحشر أنفسنا في زاوية الحكم على دين الشخص ولو بالنقل عن الآخرين، ولأنّني لا أظنّ أنّ البروفيسور يقصد تكفيره، فهو أعقل من ذلك، ولسنا ممن يتصيد الأخطاء غير المقصودة.
لكنّ السؤال المنهجيّ الذي يُوجَّه هنا: هل خَبَرْتَ “كليتشدار أوغلو” فعلمت أنّه عادل؟ إنّ الرجل لم يحكم بعدُ، ولم يتأمَّر -حتى- على قطيع من الغنم، فمن أين عرفت عدله؟ وأنت رجل أكاديميّ! لا سيّما وأنّ التاريخ السياسيّ لحزبه الذي يعتنق فكره ويترشح على خلفيته الثقافية لا يمُتُّ إلى العدل بأدنى صلة! هذه واحدة، والثانية: هل أردوغان -فعلًا- ظالم وديكتاتور؟ بأيّ أمارة؟ بأمارة أنّك تنتقده وتتهمه وتفتري عليه بحرّيّة تامّة؟! إذا كنت لا تعرف الظلم -ومن لا يعرف الظلم لا يعرف العدل- فليس عليك إلا أن تُقِلَّك طائرة إلى أيّ بلد من البلدان التي هَجَّرت الأحرار من ديارهم؛ لا لشيء إلا لأنّهم تكلموا وخرجوا عن صمتهم، ولا تقلق فلن تجد اسمك على قائمة الانتظار عند عودتك، وثالثة الأثافي أنّك نسبت هذا الكلام المتهافت إلى علماء أهل السنة، وإنّه لا يُنْسَب هذيان كهذا إلى أحد منهم قط، وهم الذين لا يختلفون على أنّ من شروط الحاكم أن يكون مسلمًا -وهذا لا علاقة له بشخص كليتشدار أوغلو- بل إنّهم أجمعوا على وجوب الخروج على الحاكم إذا كفر، ونقل الإجماع غير واحد من العلماء كابن حجر وغيره، فمن أين جئت بهذا الكلام، أَمُتَقَوِّلٌ أنت على الناس؟ أم إنّه الدجل السياسيّ؟!