السبت 21 ديسمبر 2024 09:30 مـ 19 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    الصيام والعبور للحرية

    رابطة علماء أهل السنة

    الصيام هو تلك الفريضة المعظمة في نفوس وسلوك أغلب المسلمين حول العالم، ولا يعظم المسلمون الصلاة كما يعظمون الصيام، فقد نجد من يصوم ولا يصلي، ولا يستنكر العقل الجمعي المسلم ترك الصلاة كما يستنكر وينبذ ترك الصيام رغم تقدم الصلاة على الصيام في ترتيب أركان الإسلام، وفي الوعيد على تركها وعيدا لم يرد في بقية الأركان والشعائر، وتعظيم المسلمين لشهر رمضان بالصيام والقيام وتفطير الصائمين بالجود لهم والإنفاق عليهم أمر حسن جدا، لكنه يحتاج إلى دراسة وتوظيف وارتقاء بحيث ننتقل مع الصائمين من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة لساعات خلال شهر في العام إلى إحياء وتنمية المعاني والمقاصد الكامنة وراء عبادة الصيام، التي إن ظهرت في صيام الناس غيّر الصيام واقعهم وأخذ بيدهم للحفاظ على بقية أركان الإسلام ومنها الصلاة.

    ومن أهم معاني الصيام ومقاصده الحرية والتحرر من الشهوات والعادات، وقد كان العلامة الشيخ محمود شاكر رحمه الله يرى أن الحرية هي المقصد الأعظم والأوحد للصيام، وكان ينكر بشدة المعاني والمقاصد الأخرى مثل الشعور بالفقراء والجوعى، وهو المعنى ذاته الذي توقف عنده طويلا الكاتب والسفير الألماني المعروف مراد هوفمان حيث رأى حين صام رمضان لأول مرة بعد إسلامه أن الصيام جعله يستعيد السيادة على نفسه، ويتحرر من شهوة الخمر وعادة القهوة الصباحية، حتى أنه يخشى أن ينقص أجره على الصيام بسبب فرحه بهذا الكسب والإنجاز وهو التحرر والسيادة.

    العلاقة بين تحرير الرقاب والصيام هي أن من لم يستطع تحرير غيره بالعتق فليحرر نفسه بالصيام

    من تحرير الرقاب إلى تحرير الأنفس

    المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية يلحظ أن الصيام حاضر تقريبا في كل الكفارات، وأن بعضها بدأ بتحرير الرقاب ثم انتهى بالصيام، وأن بعضها لم يذكر فيه تحرير الرقاب وذكر فيه الصيام، فأما ما ذكر فيه تحرير الرقاب فهي: كفارة القتل الخطأ في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمً﴾ [النساء: 92]، وكفارة الظهار في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 3-4]، وكفارة اليمين في قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89]، وقد جاءت السنة الصحيحة بكفارة المجامع لزوجته في نهار رمضان والتي بدأت بتحرير الرقبة وانتهت بصيام شهرين متتابعين كما في حديث الأعرابي.

    والعلاقة بين تحرير الرقاب والصيام هي أن من لم يستطع تحرير غيره بالعتق فليحرر نفسه بالصيام، وأما الكفارات التي لم يذكر فيها تحرير الرقاب ولكن ذكر فيها الصيام فهي: عدم الحلق بسبب المرض في الحج قال تعالى: ﴿فمن كان منكم مریضا أو به أذى ‌من ‌رأسه ففدیة من صیام﴾ [البقرة: 196]، وبدل الهدي للمتمتع في الحج قال تعالى: ﴿فمن لم یجد فصیام ثلثة أیام فی الحج وسبعة إذا رجعتم﴾ [البقرة: 196] ثم كفارة قتل الصيد في الإحرام قال تعالى: ﴿یأیها الذین ءامنوا ‌لا ‌تقتلوا ‌الصید وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم یحكم به ذوا عدل منكم هدیا بلغ الكعبة أو كفرة طعام مسكین أو عدل ذلك صیاما لیذوق وبال أمره﴾ [المائدة: 95] والعلاقة بين الصيام وهذه الكفارات والله أعلم هي تحرير الإنسان من شهواته وغلبة النزعة الطينية الأرضية الشهوانية على الروحية النورانية التي دفعته لهذه الأخطاء التي استوجبت التكفير، فإذا صام تعلم وتدرب على كبح جماح نفسه وعدم الاستجابة لها فيما تطلب، وانزجر عن العودة للخطأ مرة أخرى.

    سحرة فرعون تحرروا من فرعون بالإيمان فلم يبالوا بتهديده ووعيده، إيمانهم بالله وعبوديتهم له حررتهم ومنحتهم قوة المقاومة والمواجهة لفرعون وصغرت في أعينهم ترغيباته وترهيباته لهم

    قمة الحرية في تمام العبودية لله

    كان سحرة فرعون عبيدا لفرعون تأمل قوله تعالى: ﴿فألقوا حبالهم وعصیهم وقالوا ‌بعزة ‌فرعون إنا لنحن الغلبون﴾ [الشعراء: 44] ولما أشرق نور الإيمان في قلوبهم وآمنوا برب العالمين ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (48)﴾[الشعراء: 46-48] تحرروا من فرعون بالإيمان فلم يبالوا بتهديده ووعيده ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا﴾ [الشعراء: 49-51] وقالوا أيضا: ﴿قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73)﴾ [طه: 72-73] فإيمانهم بالله وعبوديتهم له حررتهم ومنحتهم قوة المقاومة والمواجهة لفرعون وصغرت في أعينهم ترغيباته وترهيباته لهم، وهذا يعني أن قمة الحرية في تمام العبودية لله.

    لقب ببشر الحافي ولما سئل في ذلك قال: إن الله تعالى صالحني إليه وأنا على تلك الحالة وأريد أن ألقى الله وأنا على الحالة التي صالحني عليها

    بشر الحافي يتحرر بالعبودية

    كان بشر الحافي رضي الله عنه أميرا من أمراء البصرة، وكان في ليلة ماجنة مع أصدقائه حيث الخمر والنساء وارتفاع الأصوات فمر بهم رجل صالح وطرق الباب، وفتحت له جارية عند بشر فسألها الرجل الصالح: سيدك هذا حر أم عبد؟ فقالت مستنكرة سؤاله: بل حر. قال: صدقت. لو كان عبدا لتأدب بأدب العبودية وما فعل ما يفعل. ثم انصرف. فسألها بشر عما دار بينهما من حوار وخرج يجري وراءه حافيا حاسرا، وسأله عما قاله لجاريته فأعاده عليه، ولما قال له: لو كنت عبدا لتأدبت بأدب العبودية بكى بشر ووضع خده على الأرض قائلا: بل عبد وابن عبد والله، وتاب واستقام وظل حافيا حتى مات؛ لهذا لقب ببشر الحافي ولما سئل في ذلك قال: إن الله تعالى صالحني إليه وأنا على تلك الحالة وأريد أن ألقى الله وأنا على الحالة التي صالحني عليها.

    وهذا درس مهم جدا في مفهوم الحرية، فقد كان بشر يظن قبل توبته أن الحرية أن تفعل ما تشاء، كما هي الحرية في المفهوم الغربي، وهي قمة العبودية أن تكون عبدا لشهوة أو كأس خمر، أو امرأة أو منصب أو دولار أو دينار أو حتى سيجارة، أو ماركة معينة غالية في الملابس والمراكب، وهي ما حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا على هؤلاء العبيد لتلك الشهوات في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في صحيحه أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".

    فالحرية التي نتعلمها من الصيام هي الحرية التي تعلمها بشر الحافي من الرجل الصالح، وهي امتلاك إرادة الترك، فأنت بالصيام تترك مختارا المباحات من طعام وشراب وشهوة لتكون بذلك عبدا حرا لله سيدا على نفسك مقاوما لرغباتها في استعبادك واسترقاقك.

    الصيام يمنح الصائم قوة وعزيمة وإرادة ورغبة في الإنجاز والسيادة والانتصار؛ لهذا وقعت معارك كثيرة وانتصارات كبرى في تاريخ المسلمين القديم والمعاصر في شهر رمضان

    الصيام يحرر الأمة من الاستبداد والتبعية

    إن الأمة الصائمة لله في رمضان يجب أن تتعلم درس التحرر من شهوات النفس وعاداتها، ومن الاستبداد والقهر والتبعية لغيرها فتنتقل من الحرية الفردية إلى التحرر الجماعي، فالصيام يمنح الصائم قوة وعزيمة وإرادة ورغبة في الإنجاز والسيادة والانتصار، لهذا وقعت معارك كثيرة وانتصارات كبرى في تاريخ المسلمين القديم والمعاصر في شهر رمضان، والصيام أيضا كما يرفع الصائم إلى منزلة السيادة على نفسه فإنه يرفع الأمة الصائمة إلى السيادة والريادة والتحرر، ولو عقلت الأمة هذا الدرس من الصيام ما كانت أرضها ميدانا فسيحا للاستبداد والمستبدين، وما عاش أهلها الصائمون في قيود الظلم وأصفاد الذل والهوان.

    هل حررني الصيام من شهواتي وعاداتي أم ما زلت أسيرا عبدا عندها؟ ولو أنك في كل عام مع الصيام تحررت من شهوة أو عادة لكنت حقا من الفائزين في رمضان

    هل حررك الصيام من شهواتك وعاداتك؟

    إن الصائم بحق هو من يسأل نفسه بصدق: هل حررني الصيام من شهواتي وعاداتي أم ما زلت أسيرا عبدا عندها؟ ولو أنك في كل عام مع الصيام تحررت من شهوة أو عادة لكنت حقا من الفائزين في رمضان، ولعل أظهر عادة أو شهوة أدمنها الصغار والكبار في عالم اليوم هي عادة التصفح الشبكي وقضاء الساعات فيه دون فائدة أو ملل، وعلينا بالصيام أن نحرر أنفسنا من تلك العادة وهذا الإدمان وأن نقتصد ونرشد علاقتنا بتلك المنصات لنحفظ أعمارنا ونعقل صيامنا.

    الصيام الحرية العبور العبد

    مقالات