“الكريسماس” وصراعُ الْهُوِيّات
رابطة علماء أهل السنةعلى الرغم من يقيني بصحة ما اتفق عليه العلماء من حُرْمَةِ تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، وعلى الرغم من رفضي القاطع للتأويلات والتعللات التي يبديها أصحاب الفقه المأزوم، الذين يجيزون هذا الأمر ويسوغونه، فلستُ مَعْنِيًّا بهذه المسألة ولا مهتمًا بها؛ لا لصغرٍ أو ضآلةِ شأنٍ أو غير ذلك مما تتسم به بعض الأمور، ولكن لأنّ هناك ما هو أكبر وأخطر، وهو ما يمكن أن نسميه: صراع الهويات، فهل هذا الصراع على جانب من الأهمية والخطورة؟ وهل يمثل الكريسماس رمزا لهويةٍ مُحادِدَةٍ للهوية الإسلامية؟
الكريسماس يعني “ميلاد المخَلِّص” والمخَلِّصُ في عقيدة النصارى هو المسيح، الذي هو الربّ عند بعضهم، وابن الربّ عند آخرين منهم، هذا العيدُ عيدٌ دينيٌّ كبير، ففي إنجيل لوقا: (إنّي أبشركم بفرح عظيم يعم الشعب كله؛ إنّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرَّبّ) (إنجيل لوقا 2/10-11)، ومن ثمّ فهو رمز لهويتهم لا يقل عن رمزية عيد القيامة، وذلك مثلما لعيد الفطر ولعيد الأضحى عندنا من رمزية تبرز الهوية الأسلامية، وقد اندمجت المناسبة الدينية تلك برأس السنة الميلادية بشكل كامل.
وقد درج الناس على الاحتفال بهذا “الكريسماس”، وكثيرٌ من المسلمين لا يكتفي فقط بتهنئة النصاري في عيدهم هذا، وإنّما يشاركونهم الاحتفال بالصور والأشكال ذاتها، لكنّ هذا على ضآلته في حسهم يُعَدُّ وِزْرًا كبيرا وانحرافا خطيرا؛ لأنّ الأمر هنا قبل أن يكون أفعالا محرمة في الإسلام أو ممارساتٍ مُجَرَّمةً في الشريعة هو قبل ذلك صورةٌ من صور التَّبَعِيَّة التي تطمس الهوية الإسلامية وتذيبها في الهويات المحاددة، وهم لا يبالون بصراع الهويات الذي يحتدم عند تخوم الحضارات والأديان، وهو الصراع الأكثر خطورة؛ لأنّه يمثل خط التماس الأول في جميع أصعدة الصراع بين الأمم المختلفة، وما وراءه متأثر به.
ولعل هذا الصنيع من أوائل ما يدخل في الحديث المتفق على صحته عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ» أي: من غيرهم يمثل خطرا عليكم ويكون حريصا على إضلالكم؟ واختيار جحر الضب هنا للإشارة إلى ما يشترك فيه سلوكُ طريقِهِم مع سلوكِ جحرِ الضَّبِّ من الدواهي، فجحر الضبّ يتميز بِنَتَنِهِ وضِيقِهِ وتَعَرُّجِهِ وظُلْمَتِهِ وانْسِدادِ أُفُقِهِ.
وإذا أردنا كلمة قرآنية تساوي كلمة “هوية” فهي كلمة “صِبْغَة” وقد وردت في سورة البقرة في سياق ما تتميز به الأمة المسلمة على لَدُنْ إبراهيم عليه السلام من الإسلام والحنيفية السمحة، قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138)، ثم جاء بعد هذا الوصف في نفس السورة ربع كامل يتحدث عن الهوية، بدءًا من قول الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142).
وعلى الرغم من أنّ الأصل الذي تقرر من قَبْلُ في نفس السورة هو أنّ الجهات كلها لله وأنّ من صلى إلى أيّ جهة قاصدا وجه الله فَثَمَّ وجهُ الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115)، وعلى الرغم من عظمة بيت المقدس وعلو قدره، وما انتشر فيه وحوله من بركة النبوات وعبق التاريخ: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) (المائدة: 21)، (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا) (الأعراف: 137)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراءء: 1)، وعلى الرغم من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، كما روى البراء بن عازب؛ على الرغم من ذلك كله فقد صدر الأمر الإلهيّ بالتوجه في الصلاة إلى المسجد الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144)، وصار من يومها استقبالُ المسجد الحرام شرطا لصحة الصلاة، لا تصح ولا تقبل بدونه.
لماذا؟ لهذا السبب الوحيد: الهوية المميزة، فالأمّة الإسلامية أمّة قائدة رائدة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، لذلك جاء جواب القرآن على سؤال السفهاء البُلَهاء: (ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)؟ جاء على هذا النحو: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، فالأمة الإسلامية جعلها الله أمةً وسطًا عَدْلًا، وأعطاها المنهج الذي يُعَدُّ معيارا تُقَيَّمُ به الأفكار والأفعال والمواقف والأشخاص والمذاهب والأمم، فلا يصح أن تكون تابعة، ولا يحق أن تنطمس هويتها، ولاسيما مع أهل الكتاب الذين سيبقى صراعهم مع المسلمين ويدوم إلى يوم الدين.
ولأنّ مسألة الهوية على هذه الدرجة من الخطورة فإنّ الوضع الطبيعيّ والواقع التلقائيّ والموقف البدهيّ هو تمسك كل قوم بهويتهم، وإبرازهم لكل ما يرمز لهذه الهوية، من أجل ذلك قرر القرآن هذا الواقع الطبيعيّ البدهيّ: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) (البقرة: 145)، فلا يصح للأمّة الإسلامية أن تفرط في القبلة ولا في أيّ رمز للهوية الإسلامية المميزة؛ حتى لا يكون للناس عليهم حجة، وحتى يتم الله عليهم نعمته بالنصر والتمكين وتمام الهدى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 150).
ولا ريب أنّ هذا كلَّه لا علاقة له بالبر والقسط مع أهل الكتاب وغيرهم من شعوب الأرض، فهذا مشروعٌ ومستحبٌ بل واجبٌ، وميدان المجاملة فيه هو الأمور الدنيوية لا الدينية، كالتهنئة بالأفراح والتعزية في المصائب، والمساعدة والنجدة وإغاثة الملهوف، وقد كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت له قبل البعثة وبعدها كما قالت خديجة: (إنّك لَتَصِلُ الرّحم وتَحْمِل الكَلَّ وتُكْسِبُ المعدوم وتُقْرِي الضيف وتُعِينُ على نوائب الحقّ)، فَهَلَّا وعينا الخطر المحدق بنا؟ وفَرَّقنا بين مواقف البر والإحسان والعدل والقسط والرحمة، ومواقف المفاصلة والمباينة والتَّميز، فأمّا الأولى فهي في الأمور الدنيوية، وأمّا الأخرى فهي في أمور الدين والشعائر وكل ما يتعلق بالهوية المميزة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.