الأحد 24 نوفمبر 2024 02:11 صـ 22 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    قوانين القرآن (5) .. قانون الأودية

    رابطة علماء أهل السنة

    إذا سلمت نفسك للأخبار المحبطة، والأنباء المزعجة في كل ساعة من ليل أو نهار عن الخسائر المتنوعة في الأنفس والثمرات، والأموال والأمراض والآفات، وانتقلت من خبر المآسي التي يتعرض لها المسلمون في الهند إلى الدماء المهدرة في سوريا، ومذبحة الإنسانية في اليمن، إلى خسارة الأمة بتدمير العراق، وتقزيم مصر، وتقسيم السودان، وأخبار المأسورين من علماء الأمة وروادها وصفوة رجالها ونسائها وشبابها، وظللت قابعًا أمام كل هذا السيل من الفواجع، سيدفعك ذلك غالبًا إلى اليأس والإحباط، بل ربما تصل إلى عدم القدرة على التفكير، أو تُصاب بأمراض الصدمات النفسية والعقلية، كالجلطات والسكتات القلبية والدماغية وغيرها.. عافانا الله وإياكم.

    فما السبيل للخروج من هذه الأزمة وإمكاناتك محدودة، وعمرك معدود، وأنت لست دولة، ولا كيانًا فاعلًا في العالم، ولا قوة ضاربة مؤثرة؟ فماذا تفعل؟ وهل يمكن أن يكون الحل في أن تُصاب بالإحباط وتستسلم لليأس؟!!

    لقد عالجت قوانين القرآن تلك الأزمة بقانون مُلهم واقعي، يتناسب وإمكانات كل فرد، ويتوافق وطاقاته، ألا وهو قانون الأودية، فما هي حقيقة هذا القانون وما أبرز تجلياته؟

    حقيقة قانون الأودية

    قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾.

    فقانون الأودية: أن يتحول الفرد في نفسه إلى واد من أودية الخير التي تجري في الأرض بتقدير الله ورعايته، فيشق عباب البحر حاملًا الحق الذي يؤمن به، دافعًا أمامه الزبد والركام، منطلقًا وفق طاقاته وحمولته المناسبة، وإمكاناته المتاحة.

    والأودية المباركة المتخصصة هي توجيه رباني حكيم، وسبيل للمقاومة عجيب، وهو المثال الوحيد في القرآن الذي قال الله عنه: ﴿كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ﴾.

    وقانون الأودية يتمثل في أن تنحت لنفسك واديًا في تخصصك، فتنهض به، وتجتهد فيه، وتجعله محراب عباداتك.

    تصنع واديًا يفتح لمن بعدك آفاقا للإكمال، ويكتب لك امتداد الأجر بعد الرحيل فإن قلَّتْ آمادك اتسعت أمدادك.

    وإن أردت أن تخدم أمتك، وأن تترك في الدنيا بصمتك، فما عليك إلا أن تنظر في الإمكانات والقدرات التي منحك الله إياها، فتنميها وتقويها وتهزّ فيها رمحك، وتضرب به عدوك، فتكون من أعلم الأمة في الحلال والحرام، أو سيفًا من سيوف الله في الميدان، أو إعلاميًّا مؤثرًا صادقًا في أزمنة البهتان، أو سياسيًّا نابهًا، أو مُعلمًا أريبًا، أو صانعًا محترفًا، أو داعيًا راشدًا بليغًا، أو اقتصاديًّا أمينًا عفيفًا… ولتعلم أن فكرة الرجل (السوبرمان) ليست إلا وهمًا طفوليًّا، وتربية فكرية ساذجة، تجعل الإنسان يعيش أسيرًا لأحلام يقظته، وتصورات خياله، أو يتطلع ليل نهار للمخلص المنتظر، وما أظن أن يأتيه إلا الدجال!!

    فلتكن واديًا متدفِّقًا غَيرَ منشَغِلٍ بذِكْرِ مساوئِ الرُّكامِ، وحقارةِ الزَّبَدِ، وخطورةِ الحشَراتِ والجراثيمِ التي تملؤُه، أو الرائحةِ العَفِنةِ التي تفوحُ منه، وإنما واجِبُك أن تنطَلِقَ مجدَّدًا، وأن تصنَعَ لنَفسِكَ مسارًا محدَّدًا، وأن تتيقَّنَ أنه كُلَّما أُغلِقَ أمامَك بابٌ، فَتحَ اللهُ لك بصِدْقِك عشَراتِ الأبوابِ.

    ولتعلم أنه ليس أمامك خيارات كثيرة، فإما أن تكون واديًا تنتفع به البشرية، وتنتصر به على الإحباط، وتفتح به مسارًا للبناء، وبابًا للأمل، وساعتها يلزمك أن تعرف أن نجاحك في هذا المسار يحتاج إلى الصبر على حرارة التصفية ولهيب التنقية، ليصفو الذهب من الزبد، قال تعالى: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾.

    فالاختيار إذن واضح: إما أن تكون واديًا، وإما أن تكون زبدًا، إما أن تكون صامدًا في أتون الابتلاء والنار التي تستخدم في صياغة الذهب، وإما أن تكون خبثًا وغثاءً وزبدًا مما يُهدر ولا فائدة منه.

    ويجب أن تعلم أن شياطين الإنس والجن يراهنون على إحباطك وتدميرك، ولكن فهمك لقوانين القرآن يحميك من الإحباط والتدمير، فلن تستطيع قوة على وجه الأرض أن توقف زحفك، أو أن تُجفف نبعك، أو أن تُشتت اهتماماتك، أو أن تُوقف إنجازاتك.

    إن الأودية من أنجع وسائل المقاومة، وأوسع ميادين الإنجاز، فلا تنتظر الفتوحات العرضية في غياب الرأس الرشيد، أو القيادة الملهمة، أو المشروع الأُممي، ولكن عليك بشق واديك، وفتح مسارك، والانطلاق في دربك، وأن تصنع لمن يأتون بعدك آفاقا للنجاح، ومنهجية للفلاح.

    فما عليك إلا أن تُقرر بنفسك أو بمساعدة من تثق في دينه وخبرته، أن تكون واديًا يشُقُّ طَريقَه ويجتازُ ما يُلاقِيه فيه من عَقَباتٍ، ولا ينتظِرُ من يشُقُّ له الطريقَ، ولا تستوحِش الطُّرقَ، ولتكن واديًا لا يَشغلُه أن يَظْهرَ، ولكن يَشْغلُه أن يستمِرَّ وينفعَ، وتيقَّنْ أن الخلودَ ساعتها مَصيرُك.

    وعليك أن تحذر في سيرك من أعراض الانتفاخ الذاتي حيث تُقنِع نَفْسَك بأنك نهر الأمة الأوحد!! أو تزداد أعراض الانتفاخ فتظُنّ نَفْسَك السيلَ ولا حاجةَ لك بالأوديةِ، بل عليك أن توثِّقَ الصلةَ بكُلِّ وادٍ، فلا تدري في أيِّها يكون الخيرُ، ومن أيِّها يأتي المَددُ، فأنت بها، والسَّيلُ لن يَكونَ إلا بكُمْ.

    وإذا فتح الله لك باب الاستعمال فلا تنشغِلْ كثيرًا ببقيَّةِ الماءِ الذي كانَ معَك في السحابِ، فكُلٌّ ميسَّرٌ لما خُلقَ له، وقَدْ سخَّرَهم اللهُ تعالى في أودِيةٍ أخرى.

    وأخيرًا

    إذا نجحت في شق واديك فسوف يجمعك الله تعالى مع باقي الأودية التي قدر سبحانه جريانها، ويسر سريانها في نهر الأمة الهادر، الذي يُزهق سبحانه به الباطل، ويُطهر به الأرض من الزبد المتراكم، فتعود لها روحها وجمالها.

    وتأكَّدْ أنك إن لم تكُنْ واديًا متدفِّقًا منطلقًا، فيقينًا ستكون زَبَدًا رابيًا، وسُرعانَ ما يُلقي بك السيلُ فتَصيرُ جُفاءً، لا قيمةَ لك، فسُنَّةُ اللهِ جاريةٌ لا تَبديلَ لها ولا تحويلَ: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾، فاختَرْ لنَفْسِك طريقًا.

    قوانين القران وادي سيل زبد جفاء

    مقالات