كيف نواجه خطر الْمِثْلِيّةِ؟
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد..
مخطئٌ مَنْ ينطلق في معالجته لقضية “المثلية” مِنْ زاوية الجريمة المسماة ب”عمل قوم لوط”، ثم يحتبس في هذه الزاوية ويقصر نظره عليها؛ فالمسألة أكبر وأعمق وأخطر وأوسع، وما جريمةُ إتيان الرَّجُل الرَّجُلَ وإتيان المرأة المرأةَ إلا أثرا من آثار “المثلية” وانعكاسا لِدِينامِيَّتِها، إنّ المثلية في حقيقتها وجوهرها انقلابٌ على الدين كله، وعلى الفطرة التي فطر الله العباد عليها، إنّها الإلحاد في نسخته العملية الديناميكية، إنّها الحربة التي تسددها اليومَ الجاهليةُ الأعتى في حياة الإنسانية – جاهلية القرن الحادي والعشرين – في قلب الدين كله وفي أكباد الشرائع أجمع، إنّها إعلان الحرب على الله تعالى وممارسة الخروج عليه بصورة نشطة سريعة في تمددها وانتشارها، هكذا يجب أن توضع هذه الظاهرة في وضعها الطبيعيّ؛ لِيَصِحَّ المنطلقُ في مواجهتها والتعرض لها، وإلا سنظل نلف وندور في معالجات تُفْضِي إلى جعلها “قضية رأي”!
ومخطئٌ كذلك من ينشغل بتتبع وملاحقة الدعاوى المتهافتة التي تصدر من وقت لآخر عن بعض الدوائر الأكاديمية، تدعي أنّها اكتشفت كودا جِينِيًّا يبرر المثلية ويسوغ الشذوذ ويبرهن على أنّ طبيعة بعض الناس تحتم عليهم أن يكونوا هكذا مثليين شاذين جنسيا؛ ليس فقط لأنّها متهافتةٌ تهافتًا يصل بها إلى حد “الخرافة الأكاديمية” ولا لكونها ساقطةً حتمًا أمام محكمات الدين وثوابته، ولكن لِذَيْنِكَ الأمرين ولأمر آخر، وهو أنّ الانخراط في جدل أكاديمي سيحول القضية بمرور الزمن إلى مسألة علمية جدلية؛ تمهيدًا لتسويغها في العقل العام، ولاسيما مع إيمان الحداثة بنسبية الحقيقة، هذا سوى خطر الوقوع في “دجل أكاديمي” كذاك الذي وقعت فيه البشرية إبّان جاهلية القرن العشرين فيما سمي بنظرية التطور!!
وثَمَّ خطأ ثالث لا يقل ضررا عمّا سبق، وهو التسليم بأنّ الشذوذ علة لا شفاء منها؛ فإنّ ذلك التسليم – إضافة لكونه خضوع لوهم أكاديمي لا دليل عليه – يعني أنّ الله تعالى عندما دعا قوم لوط على لسان نبيهم إلى التوبة والتطهر من هذا الانحراف كان يكلفهم بما لا يستطاع، ومُحالٌ أن يكلف الله الناس بما يخرج عن دائرة الوسع والطاقة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، ويعني كذلك ثبوت الحقّ لهؤلاء الشاذين في ممارسة شذوذهم؛ بما يجعل الاعتراض عليه صورة من صور العدوان على حقٍّ من حقوق الإنسان، كما يعني حتمية التسليم بالأمر الواقع وعدم السعي في علاجه، وهذا خطأ جسيم وخطر عظيم، صحيحٌ أنّ من مارس الشذوذ يصعب عليه الرجوع عنه، ويشق عليه التوبة منه، وقد يكون لذلك أسباب فسيولوجية طارئة، لكنّ ذلك لا يعني قط استحالة العلاج كما يتصور البعض؛ فإنّ الإدمان لأنواع من السموم البيضاء يجعل صاحبه كذلك، لكنّه مع ذلك يخضع للدواء ويبرأ من الداء.
أمّا النتيجة المترتبة على تلك الأخطاء فتتمثل – إضافة لما تخلل السياق آنفا – في الذهول عمّا وراء هذه الظاهرة من دوافع وتدافع، دوافع سياسية اقتصادية، وتدافع حضاري إنساني، ولو أنّنا عدنا بالذاكرة إلى الوراء؛ لرأينا كيف نجح الإعلام – إبّان الثورة العلمية – في نقل نظرية التطور من كونها مجرد فَرْض علميّ يخضع للمناقشة كسائر الفروض، إلى أن صارت دينًا تدين به الحضارة المعاصرة، قبل أن يكتشف الناس بعد ذلك بنفس المعامل والأجهزة وبذات المناهج البحثية أنّها نظرية زائفة لا أساس لها من الصحة بمنطق العلم الحديث ذاته، لقد كانت الحضارة الشابّة آنذاك تقاوم فكرة الدين ومنهج التدين؛ وتخط للناس طريقا بعيدا عن الدين كله سواء منه ما طرأ عليه التحريف أو ما بقي محفوظا بحفظ الله له.
واليوم تحاول الحضارة المعاصرة بعد أن أفضت إلى شيخوخة كَسَتْ وجْهَهَا القميءَ بالتجاعيدِ والكَلَفِ، تحاول عبثا أن تستعيد حيويتها وأن تؤخر نهايتها، إنّها “وَصْلَةٌ” كرقصة المذبوح تؤديها الحضارة البائسة الشوهاء قبل أن ترحل غير مأسوف عليها، وإنّها كسائر الجاهليات مسكونة دائما بهواجس عودة الدين؛ فهي لذلك تمارس التحرز المبكر والتحوط الاستباقي، وتبادر – كلما أحست بالخطر على وجودها أو حتى على هيمنتها – إلى رفع سقف المطالب المنحرفة الشاذة، وإلى الارتفاع بواقعها النكد إلى مستويات لا تصلها يد طالب ولا عين مراقب، وكأنّها تستبطن سنة التدافع وتسبق الإسلام وأهله إلى الاستعداد لها؛ وهنا يتأكد الواجب الكبير، واجب الدفع في كل الميادين؛ طاعة للأمر الإلهي: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24)، وتطاوعا مع السنة الإلهية: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251).
وما من شك في أنّ البعد السياسي حاضر بقوة في هذه الكارثة، فالسياسة التي يهيمن عليها اللوبي الرأسمالي يهمها أن تشغل الخلق بأنشطة واهتمامات بعيدة عن مطالبهم الجادة العميقة، وأن تزج بهم في اتجاه ممارسة الحريات بعيدا عن العولمة الرأسمالية وما تمارسه من امتصاص لدماء الشعوب، وليس بخاف على كل من له اهتمام بالشأن العام أنّ مؤتمرات السكان – التي بدأت حراكها النكد المشئوم في أواخر القرن المنصرم وأوائل القرن الحالي – تقف وراءها الإمبريالية الرأسمالية التي تصر على الاستمرار في التطبيقات العملية لفكر مالثس وبنثام وغيرهما من المفسدين؛ لذلك كانت علاجاتها لمشكلة السكان مرتكزة بالدرجة الأولى على إفساح المجال لكل بدائل النكاح الشرعي بغرض تفريغ الطاقة الجنسية بعيدا عن الإنجاب الذي ملأ الدنيا بالبشر الذين ضاقت بهم أقوات الأرض المحدودة!
يجب أن ندرك أنّ مقاومتَنَا لهذه الظاهرة الشاذة الغريبة مقاومةٌ للجاهلية، للإلحاد، للهيمنة الفكرية للكفر، للمنظومة الثقافية الغربية، فإذا أدركنا ذلك واجهنا زحف الظاهرة بكل حسم وحزم، فقذفنا بمحكمات الدين وثوابته في وجهها، وكشفنا زيفها وعوارها ومنافاتها لفطرة الله التي فطر الناس عليها، واجتهدنا في تحذير الخلق جميعا منها، ولاسيما المسلمين، ولن نحتاج لالتماس دليل من هاهنا أو هاهنا، فإنّ ما اشتملت عليه الشريعة من أحكام محكمة ثابتة فيه الكفاية والغناء.
فإنّ من المحكمات التي اشتمل عليها الإسلام – بل واشتمل عليها دين الله كله – أنّ الله تعالى خلق الناس ذكرا وأنثى، وأنّه شرع النكاح فقط بين ذكر وأنثى، وأنّه حرم أن يأتي الرجل الرجل أو تاتي المرأة المرأة، وأنّه شرع العقوبة لمن يمارس الجريمة التي كان يمارسها قوم لوط، كل هذه الجمل محكمة في الشريعة، ثابتة في الدين، وليست مما يسوغ فيه الخلاف أو يسمع فيه صوت مخالف، وإنّما هي من مواضع الإجماع المتيقن، بل إنّها من المعلوم بالضرورة من دين الله وشريعته، والمعلوم بالضرورة أكثر ثباتا ورسوخا من مواضع الإجماع، لأنَّه يشترط له مع الإجماع أن ينقل نقلا متواترا، وأن يستوي في العلم به الخاصة والعامة، ولا يشذ عن ذلك ليدخل في مواضع الخلاف إلا تقدير العقوبة – وليس أصل العقوبة – حيث ذهب الجمهور إلى أنّها القتل، وذهب البعض إلى أنّها كحد الزنى، وذهب آخرون إلى أنها تعزيرية.
وإذا أمكننا أن نمارس الضغط بأدواته المتاحة على الحكومات والأنظمة ومجالس التشريع في بلاد المسلمين؛ لتشديد العقوبة على أولئك الشذاذ الشاذين فَعَلْنَا بلا تردد، دون أن تأخذنا بهم رأفة في دين الله، وإلا فنحن متوجهون أصلا إلى الاهتمام بأولادنا، وتربيتهم تربية سوية، واتباع التوجيهات النبوية والمنهج القرآني في إنباتهم وحياطتهم بالرعاية والعناية.
وسوف نمارس هذا الدفع لا من موضع الانهزام والدفاع، وإنّما من موقع الاستعلاء والارتفاع، يجب أن نرغم أنف الجاهلية وأن نمرغ وجهها في التراب، كيف لا وهذا نتاجها وبنات فكرها وإبداعها؟! كيف لا وقد اشتهر عن “أنبيائها المزعومين” تلوثهم بكافة الملوثات التي يستنكف عنها عاميّ بسيط من عوام المسلمين، فهذا “روسو” الذي يُعَدُّ فكره إنجيلا للثورة الفرنسية؛ يسجل له أحد الأكاديمين الغربيين قائمة “القرف” – حسبما نقله “بول جونسون” في كتابه “المثقفون” ص33 – فيقول: “مازوكي، محب للمظاهر، نوراستيني مصاب بوسواس مرضيّ، ممارس للعادة السرية، شاذ جنسيا شذوذا كامنا، لحوح، عاجز عن الحب الأوبويّ، شديد الارتياب في الآخرين، نرجسي، شديد الانطواء، يملؤه الشعور بالذنب، جبان لدرجة مرضية، مريض بالسرقة، صبياني السلوك، سريع الاستثارة، بخيل” وينقل لنا نفس المؤلف في صفحة 226 من كتابه المشار إليه آنفا عن المفكر الكبير برتراند رسل الذي ملأ الدنيا بمقالاته وكتبه ونصائحه، فيقول: “كانت ضحايا رسل دائما من الكائنات المتواضعة: خادمات، مربيات، أو أي أنثى صغيرة وجميلة تتحرك في البيت … بالرغم من عمره المتقدم كان يمكن أن يطارد أي شيء داخل تنوره، يأتي في طريقه، وكان يفعل ذلك بطريقة فاضحة حتى مع الخادمات”.
فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وأنعم علينا بشريعة موافقة للفطرة، منسجمة معها غاية الانسجام، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).