الجمعة 22 نوفمبر 2024 07:47 صـ 20 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    ماذا نستفيد من تحويل القبلة ؟

    رابطة علماء أهل السنة

    روى الإمام أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين"[ قال الشيخ الأرناءوط : إسناده حسن]
    والمتدبر فى أمر القبلة سيخرج على الراجح بنتيجة مؤداها أن الكعبة كانت قبلة الأنبياء جميعًا، فقد جاءت فى ذلك آثار متعاضدة لا تُدفع، إلى جوار حديث عائشة السابق، ومنها: ما أخرجه البغوى فى تفسير قوله تعالى: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً )(يونس:87) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه" وقال النسفى فى تفسير الآية نفسها:" اجعلوا بيوتكم مساجد متوجّهة إلى القبلة وهى الكعبة.." به قطع الزمخشرى والبيضاوى.

    وقال أبو داود (فى الناسخ والمنسوخ) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا )(آل عمران:96) أعْلمَ قبلته، فلم يبعث نبى إلا وقبلته البيت" وهذا القول رجحه بعض المحدثين الكبار من أمثال الحافظ العلائى الذى قال فى تذكرته: "الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار".

    وقد اختار ابن العربى وتلميذه السهيلى أن قبلة الأنبياء هى بيت المقدس، وهو قول شائع ويمكن الجمع بأن يحمل هذا الكلام على أن بيت المقدس أصبح قبلة الأنبياء بعد عهد سليمان عليه السلام.

    وسوف نحاول الإجابة عن بعض الأسئلة الملحة حول تحويل القبلة.

    أولاً: الأقصى قبلة للمسلمين... لماذا؟

    لحكمة تربوية أشارت إليها آية جليلة (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )(البقرة:143).

    فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام فى جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومى، ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة ومن كل عصبية لغير المنهج الإلهى.. فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام فترة إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً مجرداً من كل إيحاء آخر، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والأرض والقوم.. إن التميز والاستقلال ضروريان للجماعة المسلمة فى التصور والاعتقاد، والقبلة والعبادة

    - وليتألف الله المؤمنين إلى أهمية المسجد الأقصى تثبيتاً لما كان له من مكانة فهو:

    أ - ثانى مسجد بنى فى الأرض، إذ وضعت قواعده بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً (متفق عليه) والراجح أن الذى بناه - كما يرى ابن حجر وابن الجوزى - آدم عليه السلام بمساعدة الملائكة ثم جددالأنبياء بناءه عبر التاريخ.

    ب - أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها قال صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى (فتح البارى 3/76).

    ج - والصلاة فى الأقصى بألف صلاة فيما سواه - على الصحيح كما فى حديث ميمونة فى المسند، وسنن ابن ماجه 1/451.

    د والأقصى رابع أربعة مواضع يمنع من دخولها المسيح الدجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، والأقصى والطور» (أخرجه أحمد فى المسند)

    ثانيا: العودة للكعبة... لماذا؟

    ليتحقق تميز المسلم فى كل شىء (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ٌ)(البقرة:143). ولذا جاء النهى عن التشبه بغير المسلمين فى خصائصهم، ففى الحديث: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» (متفق عليه).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاتقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا» (أبوداود وابن ماجه)، وقال أيضًا «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله» (البخارى).

    - وليقطع الطريق على اليهود الذين قالوا: «يتبع قبلتنا ويخالف ديننا».

    - ويسبق كل ذلك التأكيد مرة أخرى- بعد حادثة الإسراء والمعراج - على ارتباط المقدسات بعضهاببعض إذ حين استقبل النبى صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قلبه معلقا بالبيت الحرام ويتمنى أن يعود لاستقباله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(البقرة:144) وحين عاد لاستقبال الكعبة لم يتنكر لقدسية بيت المقدس ولم يقلل من مكانته بل ظل كما هو أحد المقدسات ومن أشرف البقاع، فهو جزء من عقيدة المسلمين وتحريره- بالجهاد- فريضة على الأمة الإسلامية.

    ثالثا: ما الدروس المستفادة

    من هذه الحادثة الفريدة ؟

    1 سرعة الاستجابة لأمر الله:

    فعن البراء بن عازب أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى أول صلاة صلاها: صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس، قبلة أهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك (متفق عليه (انظر الفتح 1/118))

    فيؤخذ من هذا الحديث المبادرة للطاعات فإن أهل المسجد الذين مر بهم الرجل وهو عباد بن بشر قد استجابوا استجابة فورية، ولم ينتظروا الصلاة القادمة بل تحولوا فورا طاعة لله عزوجل وهكذا المسلم الحق!

    2- وجوب الأخذ بخبر الواحد

    ويؤخذ من هذا الحديث أيضًا وجوب الأخذ بخبر الواحد، فهؤلاء الصحابة المصلون بلغهم خبر تحويل القبلة من شخص واحد شهد بالله أن القبلة تحولت، فأقروه على قوله، واستجابوا لنصحه،ولم يقل أحد منهم: إن هذا الخبر غير متواتر، فكيف نغير قبلتنا - وهو أمر جلل - من أجل كلام رجل واحد لا ندرى أوَهم أم لا ؟ وهذا يقوى ثقة المسلم بأخيه، ويحسن ظنه به فيكون الأصل عندنا - بناءً على هذا - أن المسلمين ثقات، حتى يتبين ما يقدح فى عدالتهم، الأمر الذى يجعل العدالة قائمة ومستمرة وليس كما يزعم بعض المشايخ أنها انتفت وانتهت.

    3- الطعن فى الإسلام مستمر:

    قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة:142).

    والسفهاء هم اليهود،- كما جاء فى صحيح البخارى، كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان،- وقد سماهم الله السفهاء أيضاً فى قوله: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِى إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)(الأعراف:155) ويمكن أن يكون لفظ السفهاء عامًا فيشمل المنافقين أيضًا الذين شككوا فى صحة صلاة من مات قبل أن تحول القبلة، فعن البراء أنه قال: «مات على القبلة قبل أن تحول رجال، وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)(البقرة:143) (فتح البارى 1/118 ) فلا ينبغى للمسلم أن يعبأ بأوهام الأعداء وتشكيكهم الذى طفح اليوم بصورة غير مسبوقة فالكلاب تنبح والقافلة تسير.

    4- أعداؤنا لن يرضوا عنا أبدًا:

    فقد قال أحكم الحاكمين: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ)(البقرة:145) فمهما فعلنا لهؤلاء، فلن يرضوا عنا مهما سالمناهم، ورضينا بالمذلة والهوان واتفقنا معهم، وأقررنا بحقهم فى الحياة على بعض أرضنا ومقدساتنا، فلن يتخلوا هم عن عداوتنا.

    إنها القاعدة الأبدية التى لا تتخلف: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِى وَلاَ نَصِيرٍ)(البقرة:120) فويل لأمة تغفل عن كلام ربها، وتنخدع بزيف وعود أعدائها.

    رابعا: متى حولت القبلة؟

    توزعت الأقوال فى ذلك- بناءً على الروايات والآثار- على ثلاثة من الآراء:

    الأول: أن القبلة حُوِّلت فى شهر جمادى الآخرة، وقد ذكره الزُّهرى عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب بن مالك، قال أبو جعفر النحاس فى كتابه (الناسخ والمنسوخ ): وهو أَوْلاها بالصواب، لأن الذى قال به أجلّّ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فى شهر ربيع الأول، فإذا صُرف آخر جمادى الأخرة إلى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرًا.

    الثانى: أن التحويل كان فى نصف شعبان، وفى يوم الثلاثاء منه، قاله محمد بن حبيب،والواقدى، وجزم به النووى فى الروضة.

    والثالث: أن التحويل كان فى منتصف شهر رجب من السنة الثانية، وكان ذلك يوم الاثنين، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح، وقال عنه ابن حجر (فى الفتح /120/1): "وكان التحويل فى نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور وقاله ابن إسحاق".

    خامسًا:هل لليلة النصف فضل خاص ؟

    صح فى فضل ليلة النصف حديث له طرق كثيرة ، منها :(إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) رواه ابن ماجة عن أبي موسى ، والحديث حسنه أيضا الألباني كما في صحيح الجامع برقم 1819...
    غير أنه لم يصح حديث فى فضل العمل فيها ...ومعنى ذلك أننا لم نؤمر بعبادة خاصة فى هذه الليلة العظيمة ...فلا نحدث فيها شيئا ...لأأنه لا عبادة إلا بنص.
    غير أن من البدهيات أن صيام الأيام القمرية مطلوب شرعًا وهى محددة بأيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر عربى، فإذا صام المسلم هذه الأيام من شعبان فإن اليوم الخامس عشر سيدخل فيها.. ومن المعلوم كذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حث على كثرة الصيام فى شهر شعبان، بل إنه كان يصوم أكثره كما حدّثت السيدة عائشة رضى الله عنها.

    أما إحياء ليلها بالعبادة والدعاء وترتيل القران فإن التهجد فى الثلث الأخير من الليل مطلوب شرعًا كذلك بل من السنن المؤكدة التى أشاد بها كتاب الله عز وجل فى وصف الإيمان العملى فى قوله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِى لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(السجدة15-17)، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نزول رب العزة فى الثلث الأخير من الليل فى كل ليلة يقول «هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر» يؤكد ذلك، فإذا قام المسلم ليلة النصف من شعبان على هذا الأساس كان خيرًا.

    و هذا لا يسوّغ ما يفعله الناس من إفرادها بعبادة أو إفرادها بصوم أو الاجتماع فى المساجد فى هذه الليلة ،وقراءة سورة يس ... والدعاء المبتدع الذى لا يصح سندًا- وإن نسبوه لبعض الصحابة، ولا متنًا لتعارضه مع الثوابت المعروفة- وكالصلوات العجيبة التى ما أنزل الله بها من سلطان، فالجهة منفكة بين هذا وذاك، فالحق أبلج والباطل لجلج!.

    تحويل القبلة اليهود الأقصى الحق الباطل

    مقالات