دور أبي حامد الغزالي في الإصلاح
الدكتور علي الصلابي ( عضو مجلس امناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) رابطة علماء أهل السنة1 ـ منهج الغزالي في الإصلاح:
ذكر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني: أن القواعد التي قام عليها منهج الغزالي في الإصلاح والتجديد ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: إن الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله، وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير، وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود.
القاعدة الثانية: وتربط القاعدة الثانية بالأولى ارتباطاً متلاحماً، فما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب هذا القعود من داخل المسلمين أنفسهم.
القاعدة الثالثة: فقد جاءت مكملة للقاعدة الثانية، فما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود، فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص، وتقديم العلاج لا مجرد تواترات (سلبية) تقوم على التلاوم، وتبادل الاتهام .
2 ـ صفات منهج الغزالي في الإصلاح:
تميز منهج الغزالي بصفات عدة ؛ منها:
الصفة الأولى: هي اعتماد النقد الذاتي، ولذلك لم يلجأ إلى تلمس التبريرات، وإلقاء المسؤولية على القوى المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف، وقابلية الهزيمة من الخارج، وهذا منهج في البحث يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فكان الغزالي يحاول أن يعالج قابلية الهزيمة، فالمشكلة حسب تصور الغزالي في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع، وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي .
الصفة الثانية:التي اتصف بها منهج الغزالي في الإصلاح هي انطلاقه من منطلق إسلامي أصيل، فاهتم بجانب الإصلاح الفكري والنفسي. وهذا مبدأ قراني واضح: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وبدأ الغزالي بخاصة نفسه أولاً، ثم أخذ بتغيير ما بأنفس الآخرين، واستمر أصحابه وتلامذته في تطبيق هذا المنهاج ، فساهمت هذه الجهود مع جهود أخرى في ظهور جيل نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي كما سنرى في مكانه.
الصفة الثالثة: إن الغزالي لم يعالج قضايا المسلمين باعتبارهم قومية منفصلة تصارع قوميات أخرى، وإنما باعتبار هذه القضايا بعض مضاعفات قعود المسلمين وعجزهم عن حمل واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3 ـ تشخيص الغزالي لأمراض المجتمع الإسلامي:
أ ـ فساد رسالة العلماء: ركز الغزالي في مواقع جمَّة على نقد العلماء المنتسبين إلى الدين، وهم في الحقيقة علماء الدنيا، وهو يحمِّلهم مسؤولية كبيرة في فساد الملوك والحكام، وفساد العوام، ويرى: أن الداء العضال فقد الطبيب، والأطباء هم العلماء، وهم أنفسهم مرضوا مرضاً شديداً ، فتحدث عما وقع فيه أهل العلم ورجال الدين من طلب الجاه والرياسة، ونيل الحظوة عند أهل الحكم والسياسة، والجدل الفارغ والنقاش الحاد، والاكتفاء بمسائل الفروع والأحكام، والانصراف عن علم الاخرة، وتهذيب النفس، وحقيقة ما فيه المنتدبون للإصلاح والدعوة من الكلام المزخرف، واللفظ المُسجع، والقصص المُلهية، ورأى عموم الفساد، وغفلة الناس، وسكوت العلماء، وفقدان النذير .
فالغزالي يرى: أن أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان، ولم يبق إلا المتمرسون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان، واستهواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً؛ فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في منطقة الأرض منطمساً، ولقد خيَّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو الجدل يتذرَّع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسَّل به الواعظ إلى استدراج العوام إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام، وشبكة للحطام.
فأما علم طريق الاخرة، ممّا درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً، وحكمة، وعلماً، وضياء، ونوراً، وهداية، ورشداً، فقد أصبح بين الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً، ولما كان هذا ثلماً في الدين مُلماً؛ وخطباً مُدلهماً؛ رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مُهمّاً لإحياء الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمناحي العلوم النافعة عند النبيين، والسلف الصالحين .
ويعتقد الغزالي أن التبعة الكبرى في هذا الفساد الشامل، والضَّعف في الدين، والانحلال في الأخلاق، تقع على العلماء، ورجال الدين، وهم السبب الأول في فساد الأوضاع؛ لأنهم ملح الأمة، وإذا فسد الملح فما الذي يُصلحه؟
ويتمثل الغزالي ببيت خوطب فيه العلماء:
يا معشَر القرَّاءِ يا ملحَ البلدِ ما يصلحُ الملحَ إذا المــلحُ فسد
ويذكر كيف مرضت قلوب الناس، واشتدت الغفلة عن المعاد، ويذكر أسباب ذلك، فيذكر منها مرض العلماء، واعتلالهم، وهم أطباء القلوب، فيقول: والثالثة: وهو الداء العضال، فَقْدُ الطبيب؛ فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً، وعجزوا عن علاجه. ويقول في موضع اخر: فإن الأطباء هم العلماء، وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الدّاء عُضالاً، والمرض مزمناً، واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طبُّ القلوب، وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عباداتٌ، وباطنها مُراءاة .
ويردُّ الغزالي فساد الملوك والأمراء إلى ضعف العلماء وإهمالهم لواجبهم يقول: بالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك لفساد العلماء، فلولا القضاة السوء، والعلماء السوء؛ لقلَّ فساد الملوك، خوفاً من إنكارهم ، ويلوم الغزالي العلماء على تقاعدهم عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلمة الحق عند سلطان جائر، ويعلل ذلك بوقوع العلماء في شباك الأمراء، وحبهم للدنيا، وطلبهم للجاه ، ولاحظ الغزالي ـ وقد أمضى مدة طويلة في التدريس والإفتاء، وعاش بين العلماء وخبر سيرتهم ـ: أنه قد شغل الناس بالجُزئيات الفقهية، والمسائل الخلافية، ووقع الاكتفاء بعلم الفقه والفتيا، وانصرف بذلك العلماء وطلبة العلم عن العلوم النافعة، والأشغال المفيدة الأخرى، وشُغلوا عن العلم الذي يُصلحون به نفوسهم، وينالون به سعادة الدنيا والآخرة.
وقد ترتب عن فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي آثار؛ من أهمها:
ـ البعد عن قضايا المجتمع، والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها.
ـ التعصب المذهبي، واختفاء الفضائل العلمية.
ـ تفتيت وحدة الأمة، وظهور الجماعات والمذاهب.
ـ انتشار التدين السطحي، والفئات التي مثلته، كفئة العلماء، وفئة أصحاب العبادة والعمل والمغرورون، وفئة المتصوفة، وفئة أرباب المال، وقد فصل الإمام الغزالي في الحديث عن هذه الفئات في كتابه إحياء علوم الدين.