السبت 23 نوفمبر 2024 03:10 مـ 21 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    قراءة في فكر: “مراد هوفمان” ( 1 )

    رابطة علماء أهل السنة

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
    لم يأت إسلامُ الدكتور “مراد هوفمان” فجأة، أو في موقف خاطف تجلَّتْ فيه حقائق الإيمان فأجْلَت عن القلب سحائب النكران، وإنّما جاء – كما يبدو من حكايته – بعد أن قطع شوطا طويلا من الدراسة والملاحظة والتجربة كذلك، ومن الاحتكاك المباشر بالواقع الذي يتسع ليشمل سلوك الناس في الشرق والغرب على السواء؛ فقد كان – فيما يبدو – من الأشخاص الذين يمضون نحو قناعاتهم بخطى وئيدة، ويحاولون أن يرتشفوا الحقيقة ارتشافا هَيِّنا على تؤدة وأناة، وهذا سلوك وسمْتٌ وطبْعٌ يهيمن على قطاع غير قليل من الناس، ولا يزال الخلق يختلفون في طبائعهم، بينما لا يمنع اختلافُ الطبائع أحدا عن بلوغ الحقيقة طالما أنّه صادق في نَشْدِها وفي السعي نحوها.
    يحكي عن نفسه أنّه ذات مرة – وعلى إثر حادثة – نُقل إلى المستشفى في حالة خطرة، وبعد أن أجرى له الطبيب العملية قال له مندهشا: “يا عزيزي إنّ المرء لا ينجو في مثل هذه الحوادث؛ لعل الله قد ادخر لك شيئًا في المستقبل” ثم يقول معلقا على ذلك: “وبعد 29 عاما أي في 25 سبتمبر عام 1980م استطعت أن أدرك معنى هذا”، يعني أنّه يوم أن أسلم في ذلك التاريخ أدرك معنى الكلمة التي قالها له الطبيب من 29 عاما مضت، ولقد ذكر في أكثر من موضع من كتابيه: “ذكريات ألماني مسلم” و”رحلة إلى مكة” ما يدل على أنّ الإسلام قد استمكن من نفسه قبل أن يعلن إسلامه بكثير.
    فما هي المؤثرات العقلية والشعورية التي اجتمعت عليه؛ لتملأ قلبه يقينا ونفسه تسليما ووجدانه إجلالا لهذا الدين العظيم؟ لقد تحدث الدكتور مراد هوفمان – الذي تقلب في كثير من المناصب السياسية كان آخرها عمله كسفير لبلده ألمانيا في المغرب – تحدث عن الطبيعة السوية للمسلم العادي الذي رآه في كل مكان حَلَّ فيه ولاسيما الجزائر، وكيف أنّ هذه الطبيعة اكتسبها المسلم من دين لا يمكن إلا أن يكون دينَ حقٍ نزل لإسعاد الإنسان وترقيته.
    بعد أن حكى مشاهد دامية من العدوان الفرنسي الغاشم على الشعب الجزائريّ قال: “شَكَّلت هذه الوقائع الحزينة خلفية أول احتكاك لي عن قرب بالإسلام المعيش، ولقد لاحظت مدى تحمل الجزائريين لآلامهم والتزامهم الشديد في رمضان، ويقينهم بأنّهم سينتصرون، وسلوكهم الإنسانيّ وسط ما يعانون من آلام، وكنت أدرك أنّ لدينهم دورا في هذا”( )، ثم حكى قصتهم مع زوجته التي أصيبت بالإجهاض وموقفهم الإنساني معها؛ مما دفعه لقراءة القرآن المترجم بالفرنسية.
    ولم يستطع أن يخفي إعجابه بقوة الإيمان التي حملت الشعب الجزائري على الصبر الجميل في مواجهة العدوان الفرنسي الغاشم، فيقول: “وجدت مفتاح سر احتمال الجزائريين الملتزمين الأذى؛ إنه: (واستعينوا بالصبر والصلاة ..)( )، فالرجل يملك حاسة إنسانية يقظة ومرهفة، أتاحت له أن يحسن تقدير ما تمر به الجزائر من محنة تحت نير الاحتلال الفرنسي الغشوم، وقادته إلى الإيمان بيد شعورية خفية دون أن يشعر، وهذا منطق إنسانيّ سليم، ومدخل من مداخل الإيمان دخل منه كثير من العظماء.
    لكنّ الرجل – وهو أكاديميّ صاحب فكر عميق – لم يعتمد فقط على مشاعره التي كان مبعثها مشاهد تحمل دلالات غاية في الإقناع، ولكنّه كان إلى جانب ذلك يطلق لعقله العنان بحرية تامّة وجرأة ظاهرة وظافرة؛ ليقارن بين المسيحية التي ورثها من بيئته وبين الإسلام الذي قرأ عنه وسمع عنه، وكان من مقارناته الصارخة تلك التي عقدها بين موثوقية القرآن وموثوقية الكتاب المقدس؛ لينتهي إلى هذه النتيجة التي أعلن عنها بهذه الصراحة: “وباعتبار العهد الجديد مصدرا ثانويا … ربما كان من الأجدى مقارنته بمجموعة الأحاديث المشكوك في صحتها (الأحاديث الضعيفة)( ).
    وهذه المقارنة حول موثوقية المصدر الإلهي قام بها كثيرون مثل هوفمان في الغرب، بعضهم أسلم وبعضهم لم يسلم، كان من الذين شهدوا بالحقيقة رغم عدم إسلامهم “مايكل هارت” الذي أصر في جميع طبعات كتابه الشهير “الخالدون مائة” أن يضع رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الصدارة، رغم ما أجراه من تعديلات مع كل طبعة، فيقول مشيرا لإحدى الميزات العظيمة “الموثوقية” :”والقرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملا، وسجلت آياته وهو ما يزال حيا، وكان تسجيلا في منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد، وليس في المسيحية شيء مثل ذلك”( ).
    وفي غمرة السخرية اللاذعة من تناقض العقيدة المسيحية يقول: “ويقولون إنّه كان على الرب أن يضحي بنفسه من أجل أن يكون قادرا على العفو! واسمحوا لي بأن أتساءل: من ذا يمكنه أن يلزم الرب بأن يخضع لهذه الضرورة؟! … ألا يشكل هذا النمط من التفكير تجديفا صارخا؟”( )، وبعد جولة أخرى من التقليب في المحتويات المشوهة للعقيدة المسيحية يقول: “ألم يكن من الأفضل والأكرم أن يعلن المرء إفلاسه الفكريّ عندما يُعْهَدُ إليه بتفسير التثليث؟!”( )، يقول منتقدا المسيحية: “وبدا لي أن أتصور فشل الله في خلقه؛ وعدم قدرته على تغيير ذلك إلا بإنجاب ابن والتضحية به، أي إنّ الله يتعذب من أجل الإنسانية، أمر فظيع ومروع بل وتحريف وإهانة بالغة”( ).
    وبقدر كبير من العمق – وبضربة معول واحدة صارمة – يقوض الأساس الذي قام عليه التثليث ويكشف عن منبع التزوير، فيقول: “الموضع الوحيد الذي يشير إلى فكرة الثالوث الواردة في خطاب يوحنا الأول (الإصحاح الخامس الآية السابعة) تزوير يعود تاريخه إلى عام 380 تقريبا بعد المسيح … أمّا الأمر الأكثر إزعاجا في الأوساط المسيحية فهو متابعة سياق ومجريات المجلس الملّي الموحد الأول، والمنعقد في نيقية سنة 325م حيث تمكنت أقلية من المسيحيين في هذا المجمع من القطع بأنّ المسيح لم يُخلق بل وُلِدَ، وأنّه يتسوى في ماهيته مع الربّ، وهذه القلة قد فرضت رأيها على الحارضرين، أمّا الأمر المثير للإزعاج حقا فهو أنّ الداعي لعقد هذا المجمع ورئيسه كان الإمبراطور الوثنيّ قسطنطين، ولقد اقترح الإمبراطور هذه الصيغة الدينية الحاسمة، وفرضها لأغراض سياسية”( ).
    ولا ينكر الرجل أنّه تأثر كثيرا بالدراسات الجادة والمحايدة لكثير من المفكرين، بعضم من الذين أسلموا وأكثرهم من الذين لم يسلموا، فقد أثنى كثيرا على دراسة موريس بوكاي “والتوراة والإنجيل القرآن والعلم” واتكأ عليها في الحملة على التوراة والإنجيل”( )، كما تحدث عن مقابلته ل محمد أسد، وعن نبوؤة محمد أسد التي أطلقها من فترة طويلة بأنّ الإسلام سيملأ الفراغ الذي ستخلفه الشيوعية والإلحاد الغربيّ”( ).
    وينقل عن علماء أصول الدين المسيحيين من أمثال: “فون هارناك” و”أدولف شلاتر” و”بول شفارتسناو” اعترافهم بأنّ القرآن قد احتفظ بأقدم وأصدق تفسير عن مكانة المسيح ودوره وطبيعته، ومن ثم أصبح يذكر المسيحيين ويواجههم بماضيهم”( )، كما ينقل عن (Adolf Von Harnack) “أنّه كان قد لفت الأنظار إلى أنّ حواريي المسيح لم يؤلهوه، أي أنّ شهادة الإيمان بالمسيح إلها – والمنسوبة إلى الحواريين – لم تصدر عنهم ولا تعكس حقيقة إيمانهم وجوهر عقيدتهم”( ).
    ومن أهم الملاحظات الكبرى التي بنى عليها قناعاته إدراكه العميق لمحاسن الشريعة الإسلامية، ففي الفصل الثاني من كتابه الأشهر: “الإسلام كبديل” يتعرض لمحاسن الإسلام ولاسيما البساطة الدالة على الفطرة، ومن ضمن ما قال: “يعيش المسلم بدون كهنوت ولا بناء ديني طبقي، يصلي لله مباشرة ويدعو الله مباشرة في دين صاف من الأسرار والغوامض؛ يناسب ذلك إنسان العصر الديمقراطي أكثر من أسلوبي الكنيستين البيزنطية والكاثوليكة القائمتين على الوساطة”( )، وبعد أن استعرض ميزة الإسلام الكبرى أنّه دين لا يقيم بناءه على هدم اليهودية والنصرانية، وبعد أن كشف عن التصويب والتسديد الذي قام به الإسلام تجاه الديانتين المحرفتين، قال: “كيف يبدو في العالم الغربيّ الآن رفض الطبيعة الإلهية للمسيح؟ والروح القدس كذات إلهية وبالتالي التثليث؟ أعتقد أنّه في هذا المجال سيكسب الإسلام مؤيدين وأنصارا من المسيحيين”( ).
    وفي كتاب آخر لا يقل أهمية عن السابق يكشف عن جمال الخطاب القرآني وهو يصحح العقيدة المسيحية فيقول: “فالإسلام يرفض رفضا تاما وغير قابل للمساومة أو للحلول الوسط فكرة الثالوث المقدس والتجسيد، لقد ارتكزت محاولة الإسلام في القرن السابع الميلادي لتصحيح المسيحية التي توطدت أركانها في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، بأن وضع المسيحية المستقاة من القرآن في مقابلها … المسيح خلق مثله مثل آدم … جاء المسيح بولادة إعجازية من مريم العذراء … جاء المسيح ليؤكد ما سبقه من دين ويعمل على إصلاحه … هو رسول أتى بمعجزات … مثله في ذلك مثل مجموعة من الرسل … ليس شخصا إلها في ثالوث … المسيح عبد الله ورسوله وليس ابنه … لم يلق حتفه صلبا … تبين مما سبق أنّ المسلمين يدافعون عن المسيحية الأولى … “( )، ثم يقرر في أسلوب يبرز علو الإسلام وهيمنته: ” يغفل الغرب عن حقيقة وهي أن الإسلام يهدف إلى أن يعيد المسيحية لتقف على قدميها بدلا من الوقوف على رأسها وأن الإسلام يمكن أن يكون ذا نفع هائل لإعادة الصحة إلى الحضارة الغربية”( ). (يتبع).

    قراءة في فكر مراد هوفمان الإسلام

    مقالات