عبادة الله على حرف، مفهومها ومظاهرها !!!
الدكتور نجوغو بن امباكي صمب - عضو رابطة علماء أهل السنة رابطة علماء أهل السنةالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ىله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فإن الغاية من خلق الجن والإنس هي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ، وهي حق الله تعالى على عباده ، كما ورد في حديث معاذ بن جل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) ، ويشمل مفهوم العبادة كل قول أو فعل ظاهر أو باطن يرضي الله تعالى ، قال تعالى { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
إذن فالعبادة هي أعظم وظيفة للإنسان في حياته ، ولا تنقطع إلا بالموت و اللإنتقال إلى الدار الآخرة حيث الحساب والجزاء ، قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ، وقال تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } .
فالإنسان المسلم في هذه الحياة في عبادة متصلة وإسلام لله مستمر ، لا تنفك عنه العبودية بحال من الأحوال ، سواء فيما اختاره وقصده من الأقوال والأفعال لنيل رضوان الله تعالى ، أو فيما جبله الله عليه من ضرورات الحياة ولوازمها .
وأهل الإيمان الصادق يحققون التوحيد لله تعالى ، ولا يلبسون إيمانهم بظلم ، قال { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } .
ويسلمون وجوههم لله تعالى ، قال تعالى { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } .
ويدعونه رغبا ورهبا وهم له خاشعون ، قال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
ويطيعون الله في الليل والنهار ، والسر والعلانية ، قال تعالى { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وينصرون دين الله تعالى ، ويطيعون ولاة أمورهم في المنشط والمكره ، ويقومون بالحق ، ولا يخافون لوم لائم ، فعن عبادة بن الصامت، قال: : (( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم )) .
وهم مع ذلك كله ليسوا معصومين من الأخطاء و لا من الذنوب ، إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، فقد يخطأون أو يذنبون ، ولكن لا يصرون على المعاصي أو يجاهرون بها ، قال تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } وقال تعالى { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } .
ومن كان هذا حاله في الإيمان والعبادة والطاعة لله تعالى فقد حقق العبادة التي خلق من أجلها ، وهو من أهل الأمن والهداية ، ومن أهل الولاية والنصرة ، والمغفرة والرحمة إن شاء الله تعالى ، ومن أهل الجنة ابتداء يدخلونها بدون عذاب ، أو انتهاء إن عذبوا في النار بسبب ذنوبهم ، فهم بين سابق بالخيرات ، ومقتصد ، وظالم لنفسه .
ومن دون هؤلاء المؤمنين الصادقين ، والعابدين القانتين ، أهل العبادة والطاعة والتوبة والاستغفار ، طائفة أخرى غير صادقين في الإيمان ، ولا صابرين على عبادته وطاعته ، وهم من قال تعالي في وصفهم { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } ، وقد اختلفت عبارات المفسرين من السلف وغيرهم في معنى قوله تعالى { مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } ، فعن مجاهد وقتادة رحمهما الله : ((على شكّ )) ، و قال ابن زيد رحمه الله ((هذا المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه ، وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر )) ، وقال علي بن عيسى رحمه الله ((على ضعف في العبادة كالقيام على حرف )) ، وقال الزجاج رحمه الله (( وحقيقتُه أنَّه يعبدُ اللَّه على حَرْفِ الطرِيقَةِ في الدِّينِ ، لا يدخل فيه دخول متمكن )) ، أي على غير الوجه الشرعي في سبب العبادة أو هيئتها وشروطها وأركانها ومقاصدها وغاياتها ، فكل من عبد الله على هذا الوجه فقد عبد الله على حرف ، ولعل هذا التفسير الأخير هو أحسن وأوجه ، ويدخل فيه كل ما سبقت من تفاسير ، وهي بالنسبة لها كالأنواع والأمثلة كعادة السلف في التفسير والبيان .
هذا ، والذين يعبدون الله تعالى على حرف أصناف مختلفة ودرجات متفاوتة ، وفيما يلي ذكر بعض من تلك الأصناف والدرجات والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل :
فمنهم أهل الشك والنفاق الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، وقال تعالى عن هذا الصنف الذي لم يصدق في إيمانه لما في قلبه من الشك والريب ، { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } .
وهؤلاء المنافقون الشاكون المرتابون في الحقيقة ليس من أهل الإيمان بل هم معدودون من جنس الكفار ، وإن عوملوا معاملة المسلمين في الظاهر ، ولذلك يقول الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ، وسبب ضلالهم وانحرافهم هو عدم صدقهم في دعوى الإيمان ، واختلاف ظاهرهم وباطنهم ، فلابد للإيمان الصحيح من الصدق المنافي للكذب ، ومن اليقين المنافي للشك .
ومنهم : الذين يخلصون لله في الدعاء عند الخوف ويشركون به عند الأمن ، قال تعالى { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
وبعض جهلة المسلمين ممن غلوا في الصالحين إذا كانوا في ضيق أو شدة استغاثوا بأولئك الصالحين ودعوهم من دون الله تعالى ، وهذا شرك عظيم بالله تعالى واتكاسة وتكنب عن الصراط المستقيم .
ومنهم : الذين يضعفون في العبادة والطاعة ، ممن عنده أصل الإيمان ، وهم الذين لم يجاهدوا أنفسهم ويعودوها على الإحسان والمراقبة لله تعالى ، فيؤدون العبادات بقلوب غافلة وأعضاء فاترة ، قال تعالى { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } ، وإذا أنفقوا تيمموا الخبيث ، وبخلوا في العطاء ، والله تعالى يقول { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ، وإذا حجوا بيت الله أو اعتمروا تميزوا في المشاعر عن سائر الحجاج ، في إحرامهم ، وتلبيتهم ، وسعيهم ، وطوافهم، وإقامتهم ، وإفاضتهم ، والله تعالى يقول { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
ومنهم الذين يعبدون الله تعالى عند الغنى والعافية ، ويعصونه عند الفقر وحلول البلاء ، فيصلون ويصومون ويحجون ويفعلون الخير إذا كانوا في حالة من الغنى واليسر والعافية في البدن والأهل ، وإذا ابتلاهم الله تعالى بالفقر أو المرض أو أصابتهم مصيبة في أهلهم ومالهم ، فتروا في العبادة ولم يصبروا على المصيبة ، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } ، قال الطبري رحمه الله : (( يعني جلّ ذكره بقوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام، وإلا ارتدّوا على أعقابهم )) .
ومنهم المتحايلون على شرع الله والمتتبعين للرخص ، يبتغون بذلك تحريم الحلال أو تحليل الحرام ، أو تغيير وتبيديل شرائع الله وحدوده ، وذلك من خصال اليهود عليهم لعنة الله تعالى ، وقد يتصف بها بعض من ينتسب إلى الإسلام من العامة والخاصة ، والله المستعان ، قال تعالى { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } ، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم عام الفتح، وهو بمكة يقول: (( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير )) ، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يدهن بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: (( لا، هي حرام )) ، ثم قال: (( قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم، جملوها ، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها )) ، وعن عائشة رضي الله عنها، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أتشفع في حد من حدود الله )) ، ثم قام فاختطب، ثم قال: (( إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) .
ومنهم المحدثون في الدين ما ليس منه ، وهم الذين يبالغون في التعبد على وجه يخالف ما شرع الله تعالى ، سواء بالزيادة عليه أو بالنقصان ، أو يتبعون مناهج مبتدعة و مقالات محدثة ، وأهواء مضلة مخالفة لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من أمور الشريعة والديانة ، وهم أهل الأهواء والملل الذين مالت بهم أهوائهم إلى سبل وطرائق استحسنوها ، وتعبدوا الله بها ، والله تعالى يقول { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، ويقول تعالى { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ، ويقول تعالى { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
ولذلك فإن وجه انحراف المبتدع في عبادته هو كونه مشرعا لنفسه من دون الله ، متعبد بما تميل إليه هواه من المحدثات ، ومتقدما بين يدي الله ورسوله ، فهو في الحقيقة عابد لهواه وليس عابدا لمولاه ، قال الشاطبي رحمه الله (( المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا ))
ومنهم : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، من الذين يدعون إلى الله تعالى وإذا ابتلوا في الله انتكسوا وانقلبوا على أعقابهم ، والعياذ بالله تعالى ، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } ، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} : بضرب، أو أخذ مال، أو تعيير، ليرتد عن دينه، وليراجع الباطل، {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي : يجعلها صادَّة له عن الإيمان والثبات عليه، كما أن العذاب صادٌّ عما هو سببه ، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} : لأنه موافق للهوى ، فهذا الصنف من الناس من الذين قال الله فيهم : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ})) .
وأخيرا وليس آخر منهم : المجاهدون الذين ، يقاتلون إذا طمعوا في المغانم وأمنوا من الفتنة ، وإذا خافوا من العدو أو بعدت عليهم الشقة ، أو كان العدو ذا شوكة وبأس ، وقل عدد المسلمين وعتادهم ، نكصوا على أعقابهم وفروا من الزحف ، وهذه من صفات المنافقين ، ولكن قد يتصف ببعضها بعض ضعاف الإيمان من المسلمين ، ممن لم يترب التربية الجهادية الإيمانية التي تمحص المؤمن ، وتمحض سعيه للآخرة ، وتخلص نيته لله تعالى ، فكم من المنتسبين إلى العلم والدعوة اليوم يعتذر عن القيام ببعض الواجبات العلمية أو الدعوية بضيق وقته ، أو قلة زاده ، أو مرض ولده ، أو سفر زوجه إلى غير ذلك من الأعذار ... ، والله المستعان ، قال تعالى في شأن هؤلاء المجاهدين أو المقاتلين على حرف : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقال تعالى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ، وقال تعالى { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } وقال تعالى { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } .
تلكم كلمات يسيرة عن العبادة على حرف ، مفهومها ومظاهرها ، وبعض أصناف العابدين على حرف ، صادرة عن تدبر في آية عظيمة من آي القرآن الكريم ، هي في الحقيقة موعظة بليغة للمؤمنين ، وفيها من العبر والدروس ما تزجر القلوب وتوقظها ، وتنشط الجوارج للعبادة والطاعة كما يحب الله تعالى ويرضى ، وعلى منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم .