أزمة فرنسا المزمنة مع قطعة قماش!!
الأستاذ حسام شاكر رابطة علماء أهل السنةيتباهى نواب هذا البرلمان بقيم الجمهورية، ويتنافسون في الذود عن حقوق المرأة. لكن ما الذي جرى تحت شعارات "حرية، إخاء، مساواة" بمجرد ظهور رئيسة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بجامعة السوربون في اجتماع برلماني؟
دخلت القيادية الطلابية مريم بوجيتو قاعة الاجتماع في 17 سبتمبر/أيلول، فانتفض النواب وغادر بعضهم تنديداً بإطلالة هذه الشابة المسلمة التي اختارت تغطية شعرها.
كشف الانفعال المفاجئ عن تفاقم التحسّس المُزمِن الذي ينتاب النخبة السياسية الفرنسية من قطعة قماش معيّنة، ومنهم نواب حزب الرئيس ماكرون "الجمهورية إلى الأمام".
أعلنت آن كريستين لانغ، وهي نائبة من هذا الحزب، رفضها القاطع حضور مريم بوجيتو في القاعة، معترضة على وجود من تستر شعرها في اجتماع للبرلمان "قلب الديمقراطية". وقالت لانغ في تغريدة: "بصفتي مدافعة عن حقوق المرأة والقيم العلمانية، لا يمكنني قبول شخص يرتدي الحجاب في الاجتماع".
يستعمل هذا المنطق المبادئ والقيم بطريقة فجّة تكشف عن معضلة التأويلات الانتقائية المتحيِّزة في خطابات النخب الفرنسية خصوصاً والأوروبية عموماً، عندما يتعلّق الأمر بحقّ الاختلاف وإدارة التنوّع.
فالديمقراطية التي يُفترض أن تكون فضاء حرّاً وتعدّدياً تُجيِّرها هذه التأويلات لتكون وصفة إقصاء لاختيارات معيّنة في المجتمع، وتضييق على بعض مكوِّناته. وباسم حقوق المرأة يُمارَس تضييق على نساء وفتيات على نحو مُهين حوصرت به الشابة مريم، كما جاء في تعبيرات لانغ وغيرها.
من عادة بعض النخب الفرنسية أن تتحصّن بـ"قيم الجمهورية" خلال استهداف فئات محسوبة على ما يبدو الهامش المجتمعي الفرنسي، الذي يُفترض أن مريم بوجيتو آتية منه.
مشكلة مريم عند هؤلاء أنها لم تمكث في ذلك الهامش فتقدّمت إلى المركز المجتمعي محمولة بثقة زملائها الطلبة في جامعة السوربون، حتى إنّ ظهورها الأوّل في برنامج على شاشة "إم6" الفرنسية يوم 19 مايو/أيار 2018 أثار زوبعة عارمة.
أفردت صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة غلافها آنذاك للتهكّم على من كانت ابنة التاسعة عشرة وقتها، فصوّرتها في هيئة تشبه القرد. ضمنت "شارلي إيبدو" غطاء سياسياً وثقافياً مسبقاً لفعلتها المقيتة، بعد أن أشعلت قطعة القماش التي ترتديها مريم جدلاً خاض فيه سياسيون ومثقفون ومعلِّقون.
أفصح وزير الداخلية جيرار كولومب عن صدمته من رؤية فتاة تستر شعرها على شاشة فرنسية، قائلاً إنّ ظهور هذه القيادية الطلابية "أمر صادم"، لأنها بتعبيره "مختلفة عن المجتمع الفرنسي"، وكأنّ الوزير لا يعترف بانتماء النساء والفتيات اللواتي يسترن شعورهن إلى المجتمع الفرنسي.
كشفت ضجّة الاجتماع البرلماني أنّ النخبة الفرنسية تتشبّث بمواقفها المتصلِّبة رغم أولويات موسم كورونا المديد، فالنخبة التي تستر وجوهها بالكمامات تستثيرها قطعة قماش تغطي شعر شابّة.
تتجاوز المسألة في جوهرها قطعة قماش، فلو أنّ "الفولار" التفّ حول العنق والكتفين، مثلاً، لما نشبت الأزمة، لكن الفتاة رفعته فوق رأسها. هذا تحديداً ما حاولت النائبة النمساوية مارتا بيسمان كشف اللثام عنه، عندما صعدت منصّة الحديث البرلمانية في فيينا، في 15 مايو/أيار 2019، لتصفع وعي النخبة السياسية في بلادها ضمن نقاشات حظر تغطية الشعر في المدارس العامة النمساوية.
حرّكت بيسمان قطعة قماش كانت تزيِّن كتفيها فغطّت بها شعرها، وقالت: "هل تغيّر شيء؟". نشرت بيسمان بعد موقفها التضامني مع المسلمات صورة نصفية لها تُظهِر رأسها بقطعة قماش ومن دونها، بغرض المكاشفة الجريئة مع مجتمع النخب المتشنِّجة من اختيارات النساء والفتيات المسلمات عبر أوروبا.
أتت حادثة الشعر المستتر في الاجتماع البرلماني الفرنسي بعد النفخ في ملف "شارلي إيبدو"، الصحيفة الساخرة التي نشرت سنة 2015 رسوماً مسيئة إلى الإسلام صوّرت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بازدراء.
أعادت الصحيفة في بداية سبتمبر/أيلول 2020 نشر رسومها تلك بمناسبة محاكمة متهمين بالصلة في الهجوم الدامي على مقرِّها مطلع سنة 2015. رفض الرئيس إيمانويل ماكرون استنكار إعادة النشر، وصرّح من بيروت أنّ رسوم الازدراء تلك ليست خطاب كراهية، فهي عنده من تجليات حرية التعبير والصحافة.
هكذا يحظى الازدراء الجسيم بحماية نخب الدولة وتشجيع شخصيات المجتمع، بما يغوي بالتمادي في استهداف مشبّع بعقد ثقافية متأصِّلة تجعل من خيار تغطية خصلات الشعر كافياً لإثارة أزمة سياسية وضجّة إعلامية عبر المواسم، ولمثل هذا جدواه لصانعي القرار عندما يصرف انتباه الجمهور بعيداً عن الأزمات الواقعية وقصور السياسات.
ضاق الاجتماع البرلماني ذرعاً بالقيادية الطلابية مريم بوجيتو، بعد قرابة سنة من موقف ذي صلة، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما رفض جوليان أودول، وهو نائب من أقصى اليمين (حزب التجمع الوطني)، المشاركة في نشاط للمجلس المحلي في منطقته (بورغوني فرانش كونتي)، لأنّ سيدة تغطي شعرها رافقت الوفد المدرسي بصفتها أمّ أحد التلاميذ.
انتفض السياسي المتطرف في وجه الأمّ وطالبها بنزع غطاء شعرها انطلاقاً من "مبادئنا الجمهورية والعلمانية". برهنت النخبة الفرنسية أنها سريعة الاشتعال في مثل هذه المواقف، فثار جدل انتهى بموافقة مجلس الشيوخ في نهاية الشهر ذاته على مشروع قانون يفرض على الأمهات اللاتي يرافقن أولادهن في الرحلات المدرسية عدم ستر شعورهن، بذريعة "حماية العلمانية".
تدفع النساء والفتيات المسلمات ضريبة مضاعفة في جولات التصعيد السياسي والإعلامي والثقافي عبر أوروبا، فهنّ المُستهدفات قبل الرجال بقوانين وإجراءات تتنزّل على رؤوسهنّ، وهنّ أيضاً من أبرز ضحايا اعتداءات الكراهية، علاوة على المواقف الحرجة في الفضاءات العامّة وأروقة الديمقراطية، وما الشابة مريم بوجيتو سوى تعبير متجدِّد عن هذه المعضلة.
عندما سنّ المشرعون القوانين الفرنسية في سنة 2004 قانون "حظر العلامات الدينية الظاهرة"، كان واضحاً أنه حِيك بصيغة متذاكية لمنع الفتيات المسلمات تحديداً من دخول المدرسة بشعر مُستتر.
اتّسعت دائرة الجدل من بعد لتصل إلى محاولة حظر الاستلقاء المحتشم على رمال الشاطئ. تدخّل الموظّفون العموميون في الجنوب الفرنسي في صيف 2016 في "مهمة إنقاذ" الفضاء العام من مشهد امرأة جلست على الرمال بلباس البحر المحتشم.
كشفت الغارة السلطوية على سيدة "البوركيني"، وهي تسمية ذميمة تقوم على دمج البرقع و"البكيني"، حالة هوَس متفاقمة. لم يتصرّف الموظفون العموميون في سلوكهم الفجّ هذا بصفة مستقلّة عن تأويلات ذميمة رسّختها المداولات الثقافية والإعلامية بشأن احتشام المسلمات.
أطلقت هذه الانزلاقات العنان لتعليقات لاذعة كالتي صوّرها كاريكاتير "لوموند" الشهير عن انهماك رجال الشرطة وموظفي الدولة الفرنسية في قياس أبعاد ملابس البحر بالمسطرة، أو الاستنتاج الساخر في بعض النكات بأنّ دولتيْن فقط في العالم تمنعان النساء من الاستلقاء على الشاطئ، هما "داعش" والجمهورية الفرنسية!
لم تأت مواسم الجدل وحملات الحظر والتضييق على "الفولار" التي شهدتها فرنسا خلال ثلث قرن من فراغ، فتأزيم الموقف مع الشابة مريم بوجيتو يبدو حلقة في سلسلة ممتدة من نزاع فرنسي مزمن مع قطع قماش تستر بها المسلمات شعورهنّ، وصولاً إلى العهد الاستعماري.
كان من ذلك أن شهدت الجزائر المحتلة حملات منظمة لنزع غطاء الرأس في الميادين برعاية المستعمرين الفرنسيين، كما جرى مثلاً سنة 1958. ومع ظهور المسلمين ضمن النسيج السكاني الفرنسي لاحقاً انتقلت قضية ستر الشعر إلى الداخل الفرنسي، وصارت مؤشراً على حساسية علاقة فرنسا مع مسلميها.
طوَت فرنسا عهد الاستعمار دون أن تجرؤ على مراجعة تاريخها الاستعماري وما تخلله من سياسات ثقافية أحادية، بما شجّع استمرارية بعض الخطابات الإقصائية والممارسات المتشنجة. لم يتورّع البرلمان الفرنسي في 23 فبراير/شباط 2005 عن إصدار قانون "تمجيد الاستعمار"، بما يجعل الإقدام على سلوكيات الغطرسة الثقافية أمراً متوقعاً من نواب يتعاقبون على مقاعده ويضيقون ذرعاً بالتنوّع، ويرفعون هراوات قيمية وأخلاقية في مواجهة طالبة في السوربون اختارت تغطية شعرها!!.