الأحد 24 نوفمبر 2024 03:21 مـ 22 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    المن في العبادة

    رابطة علماء أهل السنة

                               المنّ في العبادة

    بقلم الشيخ / عبدالوهاب عمارة

    الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وعلي آله وصحبه ومن والاه وبعد.

    إذا ما ذكَّرت الناس بصيام ستة أيام من شوال كثيرا ما يتذرعون لتركهم السنة أو تهاونهم في كثير من المكروهات وإفراطهم في المباحات فيقولون نفعل الواجبات والفروض أولا وبعدها نفعل السنن، عظيم أن نؤدي الواجب والفرض فنحن أفضل من غيرنا بكثير فهناك من لا يصلي ومن يفطر في شهر رمضان من لم يدخل المسجد في عمره ولا مرة فيتهاون في أمر المستحبات والسنن ويُفرِط علي نفسه في المكروهات والمباحات فنقول وبالله التوفيق ... الأوامر في الشريعة الإسلامية تنقسم إلي أقسام خمسة:

    1- فرض (واجب). 2- حرام. 3- مستحب. 4- مكروه. 5- مباح.

    ويشترك الكل في أنه من الشريعة الإسلامية إما من نصوص القرآن أو نصوص السنة.

    1- الفرض مثاله من القرآن {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]

    ومن السنة عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ . رواه البخاري ومسلم.

    2-  الحرام من الكتاب {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32] ومن السنة  {نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْناً }رواه البخاري.

    عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى الْخَيْلِ. رواه البخاري.

    3- المستحب مثاله قيام الليل والصلوات المسنونة دليله من الكتاب {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء :79]

    ومن السنة عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ « عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ » الترمذي.

    4- المكروه من السنة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. رواه البخاري.

    5- المباح قال تعالي {.....وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ....} [المائدة :2] وقال أيضا {.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ..} [البقرة : 187]

    قيمة السنة بين أوامر الشريعة:

     الفرض أحب ما يتقرب به إلي الله ولا تقبل النافلة حتى تُؤَدَّى الفريضة فلا يعقل أن يصلي قيام الليل ويترك الفجر مثلا ولا يصح أن يكون قيام الليل عذرا لفوات صلاة الفجر.

    والسنن والمندوبات (السنة ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها) طريق الوصول إلي محبة الله عز وجل، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » رواه البخاري. فمن أراد محبة الله فليسلك طريق السنن والنوافل فهي الموصلة إلي محبة الله.

    السنة (التطوع) مكملة للفرض:

    « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلاَئِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ انْظُرُوا فِى صَلاَةِ عَبْدِى   أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئاً قَالَ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ أَتِمُّوا لِعَبْدِى فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ » أخرجه أبوداود وأحمد وصححه الألباني.

    وصيام ستة أيام من شوال لجبر صيام رمضان ولصيام الدهر.

    السنة حامية للفرض:

    لقد سن لنا رسولنا صلي الله عليه وسلم التبكير لصلاة يوم الجمعة استعدادا للصلاة والتعايش مع خطبة الجمعة الموعظة الأسبوعية والمجددة للإيمان والبرنامج التربوي كل أسبوع فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ » متفق عليه. والنصوص في هذا كثيرة، ومن حكمة التبكير مع تحصيل الأجر والثواب هو الاستعداد والتهيئة لتلقي فيوضات تلك الفريضة وترقيق القلب وتهيئته لتلقي الجرعة التربوية وذلك بالتبكير وصلاة ما شاء له أن يصلي وقراءة قرآن وذكر وتفكر وتصفية للذهن، فماذا لو انشغل العبد في هموم الدنيا؟ ماذا لو انقلب من السوق إلي المسجد يتصبب عرقا ويلهج بأنفاسه والإمام علي المنبر وربما أكمل تفكيره فيما اشتري أو باع وهل بقي شيء لم يشتره فيخرج من الجمعة كما دخل ما ينتفع بالجرعة الأسبوعية التربوية فمن هنا كان النافلة (التبكير ) حامية للفريضة.

    كذلك المكروهات طريق الحرام:

    عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ » رواه البخاري ومسلم. فلو رسمنا دائرة تمثل الحرام بداخلها دائرة تمثل المكروهات بداخل المكروهات دائرة تمثل المباحات فمن خرج من دائرة المباحات إلي المكروهات أوشك أن يخرج إلي دائرة الحرام.

    لذلك في قوله تعالي {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء :32] كان النهي ليس عن الزنا بل عن القرب من الزنا عن مقدمات توصل إلي الزنا لم تكن محرمة في ذاتها وإنما لأنها مقدمة للحرام لذلك في الفقه قاعدة سد الذرائع.

    وكذلك لا تستصغر شيئا حتى لو كان من باب الكراهة فتراكمه يورث القلب حب وإلف المعصية {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين :14]

    حتى الإفراط وكثرة المباح تؤدي إلي الحرام عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ يَأْخُذُ عَنِّى هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ » . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِى فَعَدَّ خَمْساً وَقَالَ « اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ » رواه الترمذي وأحمد. وفي رواية لابن ماجة « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ » فالروع وهو التعفف عن الدنايا وترك المكروهات والتخفف من الدنيا باب من أعظم أبواب العبَّاد الربانيين.

    عن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ » . فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « وَصِيَامُ رَمَضَانَ » . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ » . البخاري ومسلم. 

    عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئاً أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَالَ « نَعَمْ » . قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئاً. رواه مسلم.

    ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته. ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقداً حله.

    هذا الرجل السائل هو النعمان بن قوقل بقافين مفتوحتين، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: الظاهر إنه أراد بقوله: " وحرمت الحرام " أمرين أحدهما: أن يعتقد كونه حراماً، والثاني: أن لا يفعله بخلاف تحليل الحلال، فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالاً.

    قال صاحب المفهم لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل في هذا الحديث شيئاً من التطوعات على الجملة وهذا يدل على جواز ترك التطوعات على الجملة لكن من تركها ولم يعمل شيئاً فقد فوت على نفسه ربحاً عظيماً وثواباً جسيماً، ومن داوم على ترك شيء من السنن كان ذلك نقصاً في دينه، وقدحاً في عدالته، فإن كان تركه تهاوناً ورغبة عنها، كان ذلك فسقاً يستحق به ذماً. قال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطئو على ترك سنة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا، ولقد كان صدر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض ولم يكونوا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابها.

    وإنما احتاج أئمة الفقهاء إلى ذكر الفرق لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها وخوف العقاب على الترك ونفيه إن حصل ترك بوجه ما. وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهه على السنن والفضائل تسهيلاً وتيسيراً لقرب عهده بالإسلام لئلا يكون الإكثار من ذلك تنفيراً له، وعلى أنه إذا تمكن في الإسلام وشرح الله صدره رغب فيما رغب فيه غيره، أو لئلا يعتقد أن السنن والتطوعات واجبة فتركه لذلك.

    وكذلك في الحديث الآخر: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فأخبره أنها خمس فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، ثم سأله عن الصوم والحج والشرائع فأجابه ثم قال في آخر ذلك: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه " فقال: " أفلح إن صدق " . وفي رواية: " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة " .

    وإنما شرعت لتتميم الفرائض. فهذا السائل والذي قبله، إنما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم تسهيلاً عليهما إلى أن تنشرح صدورهما بالفهم عنه، والحرص على تحصيل المندوبات فيسهل عليهما.

    وهذا يسمى بمحافظته على فرائضه وإقامتها والإتيان بها في أوقاتها من غير إخلال بها فلاحاً كثير الفلاح والنجاح - وياليتنا وقفنا - كذلك ومن أتى بالفرائض وأتبعها بالنوافل كان أكثر فلاحاً منه. شرح الأربعين حديثا النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية ابن دقيق العيد

    إياك والتبرم والمن وكثرة السؤال والحجج فهي المحبطة للعمل:

    قال علي رضي الله عنه: " سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك ".

    وعبَّر عن ذلك ا بن عطاء في حِكمه فقال: " ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول وربما قدَّر لك المعصية فكانت سبباً في الوصول، ومعصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عُجباً واستكباراً ".

    ذهب بعض الصالحين لزيارة شيخ لهم وهو مريض مرض الموت فوجدوه يبكي، فقالوا له: لم تبكِ ؟ وقد وفقك الله للصالحات, كم صليتَ وكم صمتَ وكم تصدقتَ وكم حججتَ وكم اعتمرتَ؟ فقال لهم: وما يدريني أن شيئاً من هذا قد قُبل والله تعالى يقول: {.. إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة : 27] وما يدريني أنِّي منهم.

    فالمن مبطل للعبادة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264]

    وكذلك لم يتقبل الله عطاءً ممن منَّت به نفسه فخص نفسه بالغالي والثمين وأبقي لله البخس الرخيص ، تبارك الله وتعالي عما يشركون !  فقال تعالي  {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]

    {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات14:- 18]

    يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد فأُدِّبوا وأُعلِمُوا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد،وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا: { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.

    وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي: إنما المؤمنون الكُمَّل {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي: لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي: في قولهم إذا قالوا: "إنهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة. قال تعالى: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } يعني: الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول، يقول الله ردًا عليهم: { قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ } فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه{ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: في دعواكم ذلك، ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم". ونزلت هذه الآية: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } تفسير ابن كثير.

    فأراد اللّه أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وأن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم. ولم تشربها أرواحهم : «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» ..

    ومع هذا فإن كرم اللّه اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا. فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار. ولا ينقص من أجرها شيء عند اللّه ما بقوا على الطاعة والاستسلام : «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً»

    ثم بين لهم حقيقة الإيمان : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» فالإيمان تصديق القلب باللّه وبرسوله. التصديق الذي لا يَرِد عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب.

    والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل اللّه. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب. في واقع الحياة. في دنيا الناس. ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس. فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن.

    لقد منوا بالإسلام ، وزعموا الإيمان. فجاءهم الرد أن لا يمنوا بالإسلام ، وأن المنة للّه عليهم لو صدقوا في دعوى الإيمان.

    إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها اللّه على عبد من عباده في الأرض. إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه اللّه ابتداء لهذا العبد وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع. إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة وتجعل له في نظام الكون دورا أصيلا عظيما. [في ظلال القرآن نتصرف.]

    {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحـج:11]

     قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما: { عَلَى حَرْفٍ } : على شك. وقال غيرهم: على طرف . ومنه حرف الجبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، و إلا انشمر.

    وروى البخاري: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَماً ، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صَالِحٌ . وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينُ سُوءٍ .  تفسير ابن كثير.

    ولم يقبل الله من بني إسرائيل البقرة التي أمروا بذبحها وذلك لكثرة أسئلتهم وحججهم وتحايلهم علي شرع الله ولأنهم فعلوا لا عن حب وطواعية بل عن بغض وكراهية وتبرم فقال الله فيهم { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة : 71] قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها. يعني أنَّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.  تفسير ابن كثير.

    لاَ تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْك:

    عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ كُنَّا يَوْماً فِى الْمَسْجِدِ جُلُوساً وَنَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَأَرْسَلْنَا رَجُلاً إِلَى عَائِشَةَ لِيَسْتَأْذِنَ

    فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ سَائِلٌ مَرَّةً وَعِنْدِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرْتُ لَهُ بِشَىْءٍ ثُمَّ دَعَوْتُ بِهِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ

    رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَمَا تُرِيدِينَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ بَيْتَكِ شَىْءٌ وَلاَ يَخْرُجَ إِلاَّ بِعِلْمِكِ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « مَهْلاً يَا عَائِشَةُ لاَ تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ » رواه البخاري ومسلم ، والنسائي واللفظ له ، وأحمد ، لا تحصي فيحصي الله عليك : أي : لا تعدي ما تتصدقين به وتجمعينه، فيحصي الله ما يعطيك ويَعُدُّهُ عليك، وقيل : هو المبالغة في التقصي والاستئثار.

    فلا تقل صمت كذا وصليت كذا فيقال لك مِنَ الله كذا وكذا........ من النعم والفضل التي لا تحصي.

    {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم 32: 34)

    تخيل أن شخصا له عندك ملايين وأنت تسددها جنيها بجنيه فهل تعطي له الجنيه كل يوم في تبجح و عجب ومنٍّ منك عليه أم أنك تعطيه بعين منكسرة وفي تواضع وخجل جمٍّ؟!! هكذا صلاتنا وصيامنا وحالنا مع الله تبارك وتعالي يغذونا صباح مساء بنعمه وشكرا له نصلي ونصوم كمن يقدم الجنيه منكسرا معترفا بالفضل والجميل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِى بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِى لِحُبِّى » أخرجه الترمذي. وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ » . قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْراً،وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ » رواه البخاري    

    من تأمل أحوال الصحابة وجدهم في قمة العمل مع قمة الخوف ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن.

     عن أبى بكر الصديق قال : وددت أنى شعرة فى جنب عبد مؤمن (أحمد فى الزهد) كنز العمال

    وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] فبكى، واشتد بكاؤه، حتى مرض وعادوه.

    وقال لابنه وهو في سياق الموت : ويحك ! ضع خدي على الأرض؛ عساه أن يرحمني. ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي ؛ ثلاثا ثم قضى. الزهد لأحمد.

    وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر ؛ يبكى حتى تبل لحيته أخرجه :الترمذي. وقال : لو أنني بين الجنة والنار، لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ؛ لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. أخرجه : أحمد في الزهد.

    وقرأ تميم الداري رضي الله عنه ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] جعل يرددها ويبكي حتى أصبح  أخرجه:أحمد في الزهد.

    وختاما إليكم قول الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة :35] اتقوا اللّه واطلبوا إليه الوسيلة وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب .. وفي رواية عن ابن عباس : ابتغوا إليه الوسيلة أي ابتغوا إليه الحاجة. والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى اللّه وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية ويكونون - بهذا - في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح.

    وكلا التفسيرين يصلح للعبارة ويؤدي إلى صلاح القلب، وحياة الضمير، وينتهي إلى الفلاح المرجو. «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..

    والوصول إلي الله يحتاج إلي جهاد ومجاهدة فجاهدوا عدوكم لتقيموا الإسلام علي أرض الله وجاهدوا أنفسكم لتقيموا الدين في جوانب أنفسكم جاهدوا أنفسكم وأرغموها علي الطاعة جاهدوا أنفسكم في صيام التطوع وقيام الليل وتحري السنة لتكونوا من المفلحين.

    وعلى الجانب الآخر مشهد الكفار، الذين لا يتقون اللّه ولا يبتغون إليه الوسيلة ولا يفلحون .. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة :36- 37]  إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض : هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعا. ولكن السياق يفترض لهم ما هو فوق الخيال في عالم الافتراض. فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعا، ومثله معه ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك، لينجوا به من عذاب يوم القيامة. ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار. ثم عجزهم عن بلوغ الهدف، وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم ..

    إنه مشهد مجسم ذو مناظر وحركات متواليات .. منظرهم ومعهم ما في الأرض ومثله معه .. ومنظرهم وهم يعرضونه ليفتدوا به. ومنظرهم وهم مخيبو الطلب غير مقبولي الرجاء .. ومنظرهم وهم يدخلون النار .. ومنظرهم وهم يحاولون الخروج منها .. ومنظرهم وهم يرغمون على البقاء. ويسدل الستار، ويتركهم مقيمين هناك! [في ظلال القرآن بتصرف يسير]

    ابتغوا كل وسيلة لتصلوا إلي ربكم فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ » . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ » رواه مسلم. أرغموا أنفسكم علي الطاعة وجاهدوها حتى تصلوا إلي ربكم فتوضئوا وأنتم مكرهون وصلوا بالليل وأنتم متعبون وصموا وأنتم راغبون في الملذات وتصدقوا وأنتم مقلون.

    اللهم تقبل منا واقبلنا واجعلنا من المقبولين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

     

                                                                عبد الوهاب عمارة

                                                     إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف

                                               [email protected]

     

     

    المن العبادة الفرض السنة المكروه الحرام القرآن

    مقالات