الخميس 21 نوفمبر 2024 07:37 مـ 19 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    المحرقة

    رابطة علماء أهل السنة

                               المحرقة

    بقلم الأستاذ الدكتور مجدي شلش
    أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر

    الحمد لله على نعمة الصيام والقرآن والذكر والدعاء والتراويح والاستغفار، كلها مكفرات للذنوب والمعاصي والآثام .

    من طبيعة الإنسان الوقوع في الذنب صغيرا كان أو كبيرا، ولو ظل الإنسان بذنوبه وآثامه بدون عفو ومغفرة لهلك وتعفن، فالمعاصي تجرح الإنسان حتي تصيبه فى مقتل وتقضى عليه في الدنيا والآخرة، فالذنوب شؤم وكساد على الفرد والأسرة والمجتمع، يحرم الإنسان بالذنب يصيبه الخير والبركة والنعمة والراحة والهدوء والطمأنيية والسكينة.

    العاصي كالجمل الأجرب لا يرتاح إلا بالحك والضرب على ظهره، من منا بلا خطايا ولا معاصي، لولا ستر الله علينا لفضحنا في الدنيا وضربنا على ظهورنا، وبئست الفضيحة في الآخرة أمام الناس، يوم أن يقول العاصي " ...ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابية ياليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية " ونعوذ بالله من قوله " خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه "

    حياة العصاة نكدة في الدنيا وإن كان ظاهرها السعادة بالمال أو الجاه أو المنصب، وفي الآخرة لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يؤمئذ شأن يغنيه، ولولا رحمة الله بنا لهلكنا في الدنيا والآخرة.

    شرع لنا سبحانه ما يكفر به ذنوبنا، ويحط عنا خطايانا، ومن أجل ما شرع في تحطيم الذنوب ومحرقة المعاصي الصيام، إذ من مقاصده الكبري وأهدافه العظمي تساقط الذنوب والآثام عمن تاب وصلى وصام، فقال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: " الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"

    الصوم وإن كان وقاية وجنة من المعاصي في أثناء الشهر، إلا إنه له وظيفة أخري وهي محو الخطايا والذنوب السابقة عليه وتدميرها، فهو طهارة للإنسان أثناء صومه من الذنب، وطهرة له قبل الصيام مما وقع منه من إثم أو معصية، لكن محرقة الذنوب والآثام لا تعمل عملها، ولا تؤتي ثمارها، ولا تحقق وظيفتها إلا بفعل الآتي:

    أولا: أن يعفو الأخ عن أخيه أولا فيما يقبل العفو والصفح من اللمم وغيره، فإذا أردت العفو والصفح من الله فاعف عن أخيك، قال تعالى:" ... وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما وقع مسطح بن أثاثة - رضى الله عنه - في عرض ابنته الصديقة بنت الصديق، وخاض مع من خاض في عرضها، وهو عرض رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وكان أبو بكر الصديق ينفق على مسطح، فلما علم بما فعل مسطح منع عنه العطاء والنفقة، فنزل قوله تعالي: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " لما علم أبوبكر بنزولها قال: " أحب أن يغفر الله لي " وغفر وصفح عن مسطح، وأعطاه من النفقة ما كان يعطيه.

    يا لها من نفوس طاهرة كريمة عظيمة، وقلوب رحيمة رقيقة، ونفوس صافية نظيفة، ما فعله مسطح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجه الحبيبة وصديقه الصديق كبيرة وخطيئة متعلقة بعرض وعفة، لكن القرآن حث على العفو والصفح في كبائر الذنوب، فكيف بصغيرها وسفسافها.

    بعض الإخوة يتصور أننا مجتمع ملائكي فإذا رأي مني خطأ أو خطيئة امتلأ قلبه غيظا وغضبا، وإذا طلب منه الصفح والعفو عني يقول" لا ثم لا ثم لا ...، بالرغم من صغر الذنب بجانب ذنب مسطح وخطيئته.

    يا سادة العفو من الله عن الزلات وما أكثرها متوقف علينا نحن أولا، أن تتسع قلوبنا وصدورنا لبعضنا، وأن يأخذ الأخ بيد أخيه إلى الجنة، فينال من قصورها ونعيمها بعفوه عن أخيه كما جاء في الصحيح " أن الله سبحانه وتعالى يري عبدا من عباده قصورا في الجنة فيقول العبد لأي نبي هذه القصور؟فيقول الله ليست لنبي، ولكنها أعدت لمن يفعو عن أخيه، وكان له أخا قد ظلمه، فقال الرجل قد عفوت عن أخي، فيقول الله الكبير المتعال خذ بيد أخيك وادخلا الجنة" أو كما قال -صلى الله عليه وسلم .

    هذه هي الأخوة الحقيقية التي فيها العفو والرحمة والصفح في الدنيا كمسطح، والآخرة كحال الرجل الذي صفح عن أخيه ودخلا معا الجنة.

    اللهم إني أشهدك أني قد عفوت وغفرت وصفحت عن كل أخ أو شخص أساء إلى في رمضان أو فى غيره، فانعم علينا بعفوك وغفرانك وصفحك في الدنيا، ونعيمك في الجنة في الآخرة يا أرحم الراحمين.

    ثانيا: رمضان محرقة الذنوب والمعاصي، نعم بعد صيام شهره إيمانا واحتسابا، أما صوم العادة من ترك حلال وإفطار على حرام فأني يغفر لنا، الصوم الحارق والماحي هو صوم القلب عن مشاعره الغبية من حسد وحقد ورياء وخيلاء وكبر، طهارة المسلم من الذنوب تأتي بعد طهارة القلوب.

    الصوم الحارق للمعاصي يكون للقلب السليم من الشهوات، والطاهر من الآفات، قلب مملوء بالحب والحنان والإيمان بالله الواحد الديان، قلب لا ينظر الأجر والثواب إلا فيما عند الله، قلب تحرر من أسر العفن النفسي والأنانية وحب الذات، قلوب ترى الله في خطوها وسعيها وعملها وجهادها.

    هنا يأتي كلام الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " الله الله على رحمة الله بنا أصحاب المعاصي والذنوب، هو أعلم بنا إذ خلقنا من الطين وأنشأنا من الأرض، والطين فيه من السواد ما فيه، ومن العفونة والرائحة الكريهة، ومن هنا تصور المعاصي منا لازم، وإن لم يأمر بها الشارع الحكيم، لكنها من طبيعة الذات البشرية أو جزء منها، فتأتي رحمات الله الخالق العليم بنا، لأننا نفخة من روحه فترفعنا وتعلي قدرنا وتستر عيوبنا وتحرق بعد إيماننا زلاتنا .

    ثالثا: ثم تأتي نفحة أخري من النفحات الربانية بحرق ذنوب العصاة مثلي بالقيام في رمضان إيمانا واحتسابا، قد يقع التقصير من العبد في الصيام وهو وارد لا شك، فيجبر الكسر بشيء آخر، رحمة من الله بنا، وحبا منه لنا، يقول سبحانه: " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " إنها إرادة الله ياسادة، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وقد حكم سبحانه أن يتوب علينا ويغفر لنا، له الحمد والمنة بعد أن عصيانه يعفو ويغفر، بعد أن خالفنا أمره وفعلنا نهيه يصفح عنا، بل يهيئ أسباب العفو من صيام وقيام وصلاة وحج واستغفار وتوبة، ما أعظمه من رب، وما أرحمه من إله، وما أكرمه من خالق.

    هلموا يا شباب إلى محرقة القيام، تحرق الذنوب والآثام، وترفع القدر والدرجات، " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " الله وراءك وراءك ومعك معك لن يتركك حتى يغفر لك، حتى وإن فررت منه، فسوت يأتي بك، لأنه يحبك، ويريد الخير لك حتى وإن كرهته لنفسك، اللهم أعنا على الصيام والقيام إيمانا واحتسابا في رمضان حتى يغفر الله لنا ما قدمنا من ذنوبنا.

    رابعا: لا تتوقف النفحات والرحمات والبركات في شهر الكرم والجود والعفو عن الزلات، فتأتي نفحة ربانية أخري، ألا وهى ليلة القدر، ليلة التكريم لمن آمن واستغفر، ليلة ذات قدر، لأمة ذات قدر، لنبي ذي قدر، في شهر ذي قدر،" إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمر من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك..." ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم، فهل نجتهد فيها قياما وذكرا واستغفارا وتلاوتا للقرآن ودعاءا.

    لعل الله بكرمه وفضله يفرق لنا نصرا عزيزا، وأمرا حكيما تعز به الأمة، وتعلوا راياتها، والله إني أشم رائحة النصر دون رمضان هذا، بعد أن ساد الظلم واجتمع، وقتل الشباب وسجن الأولياء، ربنا كريم لطيف سريع الحساب، ليس بغافل عما يعمل الظالمون، لطيف بعباده المسجونين، ورحيم بأوليائه المتقين من المطاردين والمبعدين.

    يارب قلت حيلتنا، وكسر ظهرنا، وقتل شبابنا، واغتصبت نساؤنا، ويتم أطفالنا، وقد اجتهدنا قدر وسعنا فأخطأنا وأصبنا، لك العتبى حتي ترضى، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك أنت يأ أكرم من سأل، ويا أعز من أجاب، وحد صفنا، ولم شعثنا، وهيء لنا صفا ربانيا قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا، ويرجوك أن تبلغه ليلة القدر حتى ينهل من بركاتها وقدرها وعظمتها، وقيادة راشدة تعز دينك، وترفع شريعتك، وتنصر إسلامك، اللهم نصرك الذي وعدتنا، وفتحك الذي بشر به حبيبنا ونبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم.

    خامسا: ولا تتوقف النفحات عند هذا الحد من محو وحرق الذنوب والمعاصي، فيأتي الاستغفار الذي يمسح ويمحق ويدمر الخطايا والآثام" فقلت استغفروا ربك إنه كان غفارا..." وقوله صلى الله عليه وسلم: " لولم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبوب ثم يستغفرون فيغفر الله لهم" أو كما قال - صلى الله عليه وسلم.

    نفحات لا عد لها ولا حصر، من توبة واستغفار وذكر ودعاء وقراءة للقرآن وقيام وصيام وزكاة وعمرة ونوافل للصلاة والصدقات، هيا شمر واجتهد، واستعن بالله ولا تعجز، فرمضان سوق الخيرات ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.

    المحرقة الذنوب المعاصي الصيام النفوس رمضان

    مقالات