اليهودي الغامض والنخبة المعادية للإسلام (1 - 3)
الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود رابطة علماء أهل السنة«هنري كورييل» مؤسس الشيوعية في مصر والبلاد العربية الذي ثبَّت دعائم احتلال فلسطين
ـ كثير من الباحثين أخفوا حقيقة «كورييل» ليؤكد الجانب الظاهر المخادع ويثبت أهمية الشيوعية في النضال الوطني
ـ استغل وجوده بمصر وخدم الصهيونية وكيانها الغاصب كما لم يخدمه أحد من ساسة اليهود ومقاتليهم
ـ «حدتو» التي شارك «كورييل» في إنشائها أدت دوراً في الأحداث السياسية بمصر قبل انقلاب يوليو 1952م وبعده
ـ هناك رسائل متبادلة بينه وبعض ضباط الانقلاب في مصر انتهت إلى مبادرة «السادات» عام 1977م
عدد كبير كتبوا عن «هنري كورييل» دراسات مطولة حاولت تقديمه في صورة البطل الثوري الإنساني، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يفسروا ولاءه للصهيونية وخوفه على الكيان الصهيوني وحرصه على ألا يكون للفلسطينيين حق أو وطن أو مستقبل!
من أبرز الدراسات التي تناولت حياة «هنري كورييل»: دراسة جيل جيرو الذي أصدر عنه كتابه «هنري كورييل، رجل من نسيج خاص» (ترجمة لطيف فرج، شركة الأمل للطباعة، القاهرة، د.ت)، ورءوف عباس الذي جعل كتابه تحت عنوان «من أوراق هنري كورييل» (سينا للنشر، القاهرة، 1988)، وإبراهيم فتحي الذي كتب «هنري كورييل ضد الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية» (دار النديم للصحافة، القاهرة، 1989)، وحسين كفافي «هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر».. وغيرهم.
والدراسة الأخيرة مع ما فيها من قصور في اللغة والإملاء تبقى أفضل الدراسات التي تناولت هذه الشخصية الغامضة، حيث ربطتها بالأمة ودور الشيوعيين وخاصة «كورييل» تجاه قضاياها واستغلال اليهود المصريين جو التسامح الذي يعيشه المصريون، وذلك لخدمة الكيان الغاصب وتجنيد أبنائهم للقتال ضمن العصابات اليهودية الإرهابية في فلسطين قبل النكبة، وقد صدرت هذه الدراسة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة تاريخ المصريين تحت رقم (240)، القاهرة 2003م.
شهادة الأم للعروس
من يشيد بـ«كورييل»، ويقدمه في صورة مثالية، يفعل ذلك لأسباب تبدو للقارئ العادي غير مفهومة، كما نرى في دراسة جيل جيرو، ولكن إذا عرفنا ارتباط الكاتب والمكتوب عنه بالصهيونية والشيوعية، فإن الأمر يبدو طبيعياً للغاية، فمن يشهد للعروس غير أمها كما يقولون؟
«كورييل» خدم الصهيونية وكيانها الغاصب كما لم يخدمه أحد من ساسة اليهود ومقاتليهم، لأنه استغل وجوده في مصر –بوابة فلسطين- ليؤسّس حاضنة للفكر الشيوعي الإرهابي الخائن، وليجعلها مسرحاً لإمداد القتلة اليهود في فلسطين بفائض القوة والمال جميعاً، فضلاً عن تلجيم الكراهية للصهيونية وإجرامها عن طريق الشيوعيين من أبناء مصر.
فالتسامح الذي يفيض على سكان مصر تجاه الأجانب والغرباء منح «كورييل» مجالاً للحركة غير مسبوق، ولو أن المصريين -السلطة والنخبة- امتلكوا بعض الحذر والفطنة؛ ربما لم يكن للكيان الصهيوني وجود، وللأسف فقد كان أغلب المصريين ونخبهم يميلون لأخذ الأمور ببساطة؛ فكانت النتائج كما يعلمها الناس ونعيش آثارها حتى يومنا هذا.
تاريخ «كورييل» يشير إلى أنه ولد في القاهرة لأسرة يهودية مصرية ذات جذور إيطالية عام 1914م، وهو قريب للفيزيائي الإيطالي المناهض للفاشية «يوجينيو كورييل» الذي اغتيل في إيطاليا عام 1945م، وكان أيضاً عماً لعميل «الكي جي بي» البريطاني «جورج بليك».
بعد مولده بثلاث سنوات صدر «وعد بلفور» (2/11/1917م) عن وزارة الخارجية البريطانية بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين (من لا يملك أعطى من لا يستحق)، وبعد الوعد بعام تقريباً حضر «حاييم وايزمان» في 14/8/1918م إلى الإسكندرية، واجتمع بكبار اليهود المصريين، وشرح لهم وضع فلسطين من الجوانب كافة وما تحتاج إليه لإقامة وطن قومي لليهود، وتكونت لجنة أصدرت منشوراً إلى يهود الإسكندرية للاكتتاب وجمع التبرعات من أثرياء اليهود وإرسالها إلى فلسطين من أجل إقامة مستوطنات زراعية، كما كان عام 1918م بداية التشكيل العسكري الصهيوني في فلسطين.
ويلاحظ أنه في 15 مايو من هذا العام ولد جمال عبدالناصر في المنزل رقم (12) شارع قنواتي بحي باكوس بالإسكندرية قريباً من اليهود ومخططاتهم، بحكم أن الإسكندرية كانت تضم أكبر تجمع لليهود في مصر (نحو ثلاثين ألفاً)، ويشكلون أكثر من 20% من عدد سكانها، ويهيمنون على الاقتصاد المصري ويملكون ثروات خيالية بالنسبة للمصريين من غير اليهود.
تأسيس الحزب الشيوعي
أسس «هنري كورييل» عام 1943م حزباً شيوعياً اسمه «حركة التحرر الوطني المصري» (حمتو)، الذي أصبح بعد ذلك «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) عام 1947م بعد اندماجه مع فصائل شيوعية أخرى، وفي الوقت ذاته أنشأ في السودان «الحركة السودانية للتحرر الوطني» (حستو) من خلال قسم السودانيين في التنظيم الذي تطور إلى الحزب الشيوعي السوداني.
أدت الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) دوراً كبيراً في الأحداث السياسية المصرية السابقة لانقلاب يوليو 1952م وما بعده، وشارك أعضاؤها من قسم الضباط في هذا الانقلاب، وكان من بينهم يوسف صديق، وخالد محيي الدين، وجمال عبدالناصر، وأحمد حمروش، وعثمان فوزي، وثروت عكاشة.
وأسهمت «حدتو» في إنشاء تنظيمات نقابية وطلابية مهمة قبل انقلاب يوليو مثل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946م، ودعت إلى تكوين اتحاد عمال مصر وشاركت في إدخال مفاهيم جديده للفن والثقافة في مصر.
قبض على «كورييل» مع بعض الشيوعيين اليهود، ورحّلته حكومة الوفد مع آخرين عام 1950م إلى الخارج، حيث قام بتأسيس مجموعة عرفت باسم «مجموعة روما» من اليهود الشيوعيين المهجرين من مصر، وظلت مجموعة روما على اتصال دائم بالشيوعيين المصريين، واحتفظت بأكبر أرشيف للحركة الشيوعية المصرية.
ثم عمل ضمن مجموعة «جينيون» التي ساندت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في حرب استقلال الجزائر (1945 – 1962م)، وألقي القبض عليه من قبل الاستخبارات الفرنسية عام 1960م ثم أطلق سراحه.
بعد الاستقلال الجزائري أسس «كورييل» منظمة مناهضة للاستعمار سميت «تضامن»، وهي مجموعة مساندة لعدة جماعات ومنظمات للتحرر من الاستعمار في العالم الثالث (خصوصاً في أفريقيا وأمريكا اللاتينية)، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في جنوب أفريقيا، وكذلك الحركة الفرنسية المعادية للاستعمار (M.A.F).
في عام 1976م اقترح «هنري كورييل» إجراء اتصالات بين ممثلين من الفلسطينيين و«الإسرائيليين» والاعتراف المتبادل ببعضهما بعضاً، وحدثت بالفعل عدة لقاءات منظمة بين الطرفين عرفت لاحقاً باسم «لقاءات باريس»، بتنظيم من «بيير ماندي فرانس»، كما ضمت عصام سرطاوي، مستشار ياسر عرفات، و«يوري أفنيري»، و«ماتيتياهو بيلد»، عضو المجلس «الإسرائيلي» للسلام بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين، وقائد القوات اليهودية على جبهة الضفة الغربية في حرب 1967م.
وكانت هناك رسائل متبادلة بين «كورييل» وبعض ضباط الانقلاب في مصر انتهت إلى مبادرة السادات عام 1977م على النحو الذي سيرد.
وفي عام 1978م اغتيل «هنري كورييل» في ظروف غامضة.
المؤامرات والقروض
بدأت مصر تنهض في عصر محمد علي، وتابع الخديو إسماعيل عملية النهوض، وكان يحلم بأن تكون مصر قطعة من أوروبا، ولكن الأوروبيين ومن خلفهم بيوت الرهونات اليهودية التي كانت تحمل بذور الصهيونية عملوا على وأد النهضة، والقضاء على الخديو من خلال تدبير المؤامرات لزعزعة حكمه واستدراجه لبيوت الرهونات والقروض من البنوك اليهودية مثل بنك «أوبن هايم وروتشيلد جويش»، ومع ثقة إسماعيل في اليهود وجهله وحسن نيته، فقد صار فريسة لهم ونالوا منه ومن مصر، وتراكمت الديون، وراحت الصحف اليهودية الصهيونية في مصر مثل «أبو نظارة»، و«الحاوي»، و«أبو صفارة» لصاحبها اليهودي الصهيوني يعقوب صنوع؛ تهاجمه وتهز موقفه وتدعو إلى عزله.
أضف إلى ذلك ظهور جمعيات هدفها القضاء على الخديو وتعطيل مسيرة الحكم ومعظم أفرادها من شباب اليهود مثل جمعية اتحاد مصر الفتاة، وكان الهدف المعلن مقاومة استبداد الخديو أو إسرافه.
وقد سيطر اليهود على ثروات مصر ومواردها بسبب بساطة أهلها وطيبتهم إلى درجة السذاجة، مستخدمين في ذلك عدة وسائل أهمها الربا.
وكان «دانييل نسيم كورييل»، والد «هنري»، واحداً من المرابين، له بنك رهونات يستغل حاجة الفلاحين والمزارعين فيقرضهم بالفوائد الباهظة التي تنتهي غالباً بشراء اليهود للعقارات والأراضي أو الاستيلاء على عائدها المالي بسبب العجز عن السداد.
كما هيمن اليهود وسماسرتهم على تجارة القطن التي كانوا يفضلونها، وشركات الملاحة البحرية التي كانت تنقله من الإسكندرية إلى الموانئ الأوروبية (انظر: حسين كفافي، هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، ص 21 – 24).
توطدت العلاقة بين بريطانيا والصهيونية العالمية على حساب مصر ومصالحها في زمن الخديو إسماعيل، وتدخلت الدول الأوروبية بإنشاء صندوق الدين تمهيداً لاحتلال مصر عام 1882م، وازداد التعاون بين بريطانيا والصهيونية العالمية من خلال «دزرائيلي» أبرز رؤساء الوزراء البريطانيين في العصر الاستعماري الفيكتوري.
كما ازداد النفوذ اليهودي في مصر في عشرينيات القرن العشرين، وتمت سيطرة اليهود على الصحافة والنشر وما يرتبط بهما من طباعة وورق، ومعظم المؤسسات الاقتصادية والفنادق والخدمات والسينما والبورصة التي كان 98% من العاملين فيها من اليهود، بينما عزف المصريون عن هذه الأنشطة واتجهوا إلى تملك الأراضي والوظائف الحكومية بوصفها رمز القوة والوجاهة، وقد غذى اليهود هذا الاتجاه في المصريين كي لا ينافسوهم في الأعمال الحرة التي تتيح لهم التسلل إلى خلايا المجتمع ومعرفة أسراره والمساومة بها مع البريطانيين لتحقيق أهدافهم التي بدأ التعبير عنها رسمياً من خلال «وعد بلفور» عام 1917م لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
من «الجيتو» إلى الانتشار
وكانت تجمعات اليهود في مصر (الجيتو) مراكز لبث الإشاعات والفكر الهدام والبلبلة الفكرية وإفشاء الرذيلة وتحريف الكلم عن مواضعه لخدمة قضاياهم أو قضيتهم الكبرى بالسيطرة على فلسطين، لقد نشروا أفكار «كارل ماركس» التي تزْدَري الأديان وتحقّرها، بينما هم يتعبدون سراً في بيوتهم باليهودية ويحافظون على ما يسمونه تراثهم، ويحيون اللغة العبرية الميتة، بالإضافة إلى الترويج لفكر «فرويد»، و«دارون»، و«دور كايم»، و«نيتشة» وغيرهم لإفساد الأخلاق وتدمير المعتقدات الدينية والتقاليد باسم العلم والبحث العلمي (انظر: حسين كفافي، هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، ص 25 – 29).
لوحظ أن اليهود انتقلوا من «الجيتو» إلى الانتشار وخاصة في الإسكندرية وأحيائها الشعبية، فأنشؤوا الصحف والجمعيات والمؤسسات الطبية والاجتماعية ورعاية الأيتام اليهود، والأخطر من ذلك كان نشاطهم السري تحت الأرض.
في أثناء الحرب العالمية الأولى أنشأ اليهود الفيلق اليهودي لحماية اليهود في فلسطين، وانضموا للقوات البريطانية عام 1918م، حيث غادرت أول كتيبة يهودية ميناء الإسكندرية في طريقها لميدان القتال، واستقبل اليهود هذه الوحدات وهي تستعرض قوتها في شوارع الإسكندرية استقبالاً حماسياً، حيث كان من بين أفرادها جزء من تنظيمات «الهاجاناه» التي قاتلت الفلسطينيين وطردتهم بعد «وعد بلفور» واستولت على ممتلكاتهم.
كوّن اليهود جمعية صهيون بالإسكندرية وإنشاء مكتب لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين والإسهام في توطينهم (انظر: حسين كفافي، هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، ص 28 وما بعدها، وسعيدة حسني، اليهود في مصر، هيئة الكتاب، 1992، ص 29، 175، 179، 214، وانظر: رءوف عباس، أوراق هنري كورييل... ص 22).
لماذا تحركت فجأة النوازع الإنسانية لدى «كورييل» ورفاقه الشياب من أبناء الطبقة البرجوازية اليهودية الذين يعيشون الترف والدعة وليس غيرهم من شرائح البرجوازية الأخرى تجاه الطبقة المصرية العاملة؟ ولماذا لم يحدث ذلك إلا في ظروف الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا غرقوا في المناقشات النظرية والخلافات الأيديولوجية المصطنعة دون اهتمام بالنضال السياسي؟ يبدو أن الأمر كله كان سيناريو معد مسبقاً! (كفافي، ص 51 - 52، ورءوف عباس، ص 80).
انشغل «كورييل» بالأعمال السرية تحت الأرض مع أخيه «راؤول» وشيوعي سويسري اسمه «جورج بوانتي» كان يعمل مدرساً في مصر وكان عمره آنذاك 35 عاماً، وكانت لـ«كورييل» مكتبة في ميدان مصطفي كامل قامت بدور كبير في تجنيد الشيوعيين المصريين وترجمة التقارير التي تفيد الغزاة الإنجليز، ونقل الرسائل السرية بين جهات وأشخاص غير معروفين إلا لـ«كورييل» وشقيقه، اللذين عاشا في ظل هيمنة يهودية على الحياة المصرية وخاصة في الجانب الاقتصادي، وقدرة على الحركة في كل مكان وخاصة الأحياء الشعبية.