"ظريف الطول"، ليست مجرد قصة تناقلناها من أجدادنا، بل هي تكرار للماضي مع اختلاف الأشخاص "شهداء ومطاردون ومقموعون لا يملكون سلاحا يحاربون به سوى قناعاتهم"، لكن وكما اعتدنا دائما أن لا نأخذ العبرة إلا بعد الفقد، وكما لا نشعر بقيمة الأشياء إلا بعد خسارتنا لها، الأبطال الحقيقيون لا يأتي على ذكرهم أحد إلا بعد موتهم، وهذا ليس بتلك الدرجة من السوء لهم، لأن العمل المقاوم لا ينجح إلا إذا كنتَ ذا قدرة على العمل بصمت، فعلك يسبق قولك وتعمل من أجل قضية وليس من أجل الثناء عليك.
هنالك أبطال لديهم نفس وطني ولديهم مواقف مشرفة، وربما يعملون بصمت من أجل الكثير من القضايا، يغيرون الواقع بخفاء، لكن، ولإيمانهم بقيمة الكلمة وأهمية شحذ الهمم في ظل الجهل الوطني المتفشي بيننا، يتحدثون بقضايا وثوابت بديهية وحقوق أساسية لكنها تبدو غريبة ومستحيلة، لا يملون من تذكيرنا بالأشياء التي علينا التمسك بها، هؤلاء يتهمهم الكثير منا بالتنظير والفلسفة ونسخر من كلامهم، ثم وما إن نفقدهم، نسرع إلى نبش صفحاتهم ونفتخر بما كتبوه سابقا وما كنا نعتقد أنه تنظير في زمن كل ما فيه يقف عاجزا عن التقدم خطوة نحو القناعة قولا وفعلا. ألم يحصل هذا الأمر مع الشهيد باسل الأعرج وأحمد جرار والكثير من الشهداء الذين كنا نلتقيهم ونقرأ لهم، ويتساءل بعض المتسكعين عن "الهراء" الذي يتحدثون به؟ كيف يتحدثون عن فلسطين كاملة وسط بقايا متناثرة منها؟ كيف سيترك الشعب الذي اعتاد الراحة كل ذلك البتر ويتجه نحو المقاومة بتأثير من كلامهم؟ كيف لا يملون من تذكيرنا بكل ما أصبح مستحيلا بالنسبة إلينا؟ وكيف يجدون الوقت من أجل الحديث عن كل تلك القضايا دون أن يشعروا بملل؟ والأهم، كيف لا تنسحق معنوياتهم بالأرض وسط هذا الخراب؟
إن مصافحتنا للموت ورفقتنا له وعلاقتنا به نحن الفلسطينيين لا يمكن تفسيرها، إننا حقا نبتسم له ونلتقط الصور التذكارية بجانبه ونحدثه كما لو كان صديقا هادئا
هؤلاء يعذبوننا بالأسئلة في كل الأوقات، خاصة تلك التي لن يعودوا موجودين فيها. نتساءل! لماذا يصبح الشهداء أجمل حين يرحلون؟ لنهواهم أكثر؟ ألا يكفيهم أن الموت يقع دوما في غرامهم؟ يااااه! كم يلزمنا من الموت كي نصدق الأحياء؟
يأتي يوم ما ويستشهد هؤلاء، ماذا نفعل؟ نمجدهم، ونفكر قليلا في كلامهم الذي اعتقدنا أنه تنظير، وقد يؤمن البعض نتيجة غيابهم بأن الثقافة لا تعني فقط المعرفة العامة والفصاحة في إلمامك بكل القضايا والأحداث وتحليلك العميق لها وحفظك للشعر وقراءتك للكتب، إن المثقف الفلسطيني يختلف تماما عن هؤلاء، إنه يكتب عن الشهداء وهو يعرف أنه شهيد مع وقف التنفيذ، يتضامن مع الأسرى وينام كل ليلة دون أن يخلع حذاءه متوقعا هجوم العسكر في أي وقت واعتقاله، يسير في جنازات الشهداء ويخجل من عجزه، لا يقبل بالتنظير فقط، وكلما سنحت له الفرصة يحول كلماته إلى واقع، يرفض أن تبقى جثة هامدة في نصوصه، حين يكتب عن الموت يتآلف معه.
هل رأيتم من يكشر عن ابتسامته للموت غير الفلسطيني؟ إن مصافحتنا للموت ورفقتنا له وعلاقتنا به لا يمكن تفسيرها، إننا حقا نبتسم له ونلتقط الصور التذكارية بجانبه ونحدثه كما لو كان صديقا هادئا. دققوا في صور الشهداء، سوف ترون الموت في ظلهم، إنه يقف مختالا بجانب الشهداء سعيدا برفقتهم وبما "قدم الشهداء للموتى الأحياء من أمل".
هنا فقط نموت ليعيش الموت. ماذا نفعل أيضا؟ إننا نغني. ففي الوقت الذي كان فيه ظريف الطول مطاردا "وتخبأ في الزيتون وضحكات الأولاد" وحين "ضاقت عليه الجبال وتحاصر في الوادي" كنا أكثر عجزا عن حمايته، وكالعادة؛ فقط "في تجويف الصدر ضمه شعبنا" وفي الأغاني التي تطربنا وتمجد الأبطال الذين لا يستمع إليهم أحد إلا بعد موتهم.
"ظريف الطول"، ذلك الشاب النجار الوسيم الطويل الذي تناقلنا قصته منذ أيام الانتداب البريطاني، كان يقيم في قرية غريبة، تتمناه كل صبية لأخلاقه، لكنه لم يكن يكترث بالنساء، وحين هجمت إحدى العصابات الصهيونيّة على القرية واستشهد ثلاثة شبّان، غادر ليعود بعد أيام بخمس بنادق اشتراها من ماله الخاص، وزعها على الشبان، وقتل ستة من أفراد العصابات، وحين اندلعت معركة كبيرة واستشهد عدد كبير من أبناء القرية، لم يعثروا عليه بينهم ولم يكن بين الأحياء واختفى.
البعض قال إنه قتل أكثر من 20 شخصا من أفراد العصابات وأنقذ شباب القرية، والبعض حلف أنه شاهده في يافا مع الثوّار، وآخرون رأوه في بيروت إبان اجتياح 1982، ومرت الأيام وأصبح الفلسطيني يراهُ في كل مقاوم، فظريف الطول هو الشهيد الذي قاتل بشراسة، وهو الأسير، وهو اللاجئ، وهو المنفي وهو المطارد.
في الواقع ظريف الطول لم يمت، وما زال محط إعجاب الصبايا، وما زالت العجائز يُغنين راجيات عودته "يا ظريف الطول وين رايح وين.. بقلب بلادنا تعبّقت الجروح، يا ظريف الطول وقف تاقولك.. رايح عالغربة وبلادك أحسنلك"، يخشين أن يعتاد بلاد الغربة "خايف يا ظريف تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا".
ظريف الطول مثله مثل "أجمل الأمهات" التي تغنينا بها "والتي انتظرت ابنها وعاد مستشهدا، فبكت دمعتين ووردة ولم تنزوِ في ثياب الحداد"، جميلة فقط بعيوننا نحن المتفرجين وأصحاب الكاميرات الفضوليين، وفاقدي القدرة على الفقد، جميلة في أشعارنا ونصوصنا، في ثقافتنا ومبادئنا ونهوضنا بعد سقوطنا، جميلة لأنها يجب أن تكون جميلة وغير مسموح أن تكون غير ذلك في ثقافة وطن ما زال يحشو الزغرودة بين مفردات لغة الفرح، ولا يعرف أنها فعل عناء ومشقة ومفردة قهر لا تنطق بها سوى الحناجر التي تعبت من الكلام وتخشى الوداع.
إن للزغرودة في ثقافتنا حكاية ليس لها فصل أخير. حين تتحول أحزاننا إلى غناء، وصراخنا إلى زغاريد، إنها طريقة الفلسطيني في مؤاخاة الموت. لكن ماذا عن الجمال بنظر هؤلاء الأمهات؟ لقد "عذب الجمال قلوبهن يوم نادى للرحيل". ألكونها أم شهيد ممنوع أن تنهار وتصرخ وتسب وترى كل الوطن ضئيلا مقابل لوعتها على فلذة كبدها الذي "ربته كل شبر بنذر"؟
حفنة رصاص، بقايا مطارد، رفاق يقتفون أثر الشهيد ويتبعون تعاليم البنادق وصلوات الأرض التي تفتح ذراعيها دوما لأجسادنا من أجل العناق الأخير. الأرض تُزهر بالجسد المدفون فيها والوطن ينمو بالفكرة. مع كل تلك الأشياء كيف يتوقع العدو أن يجد سلاما ينجيه من الموت المحتوم؟ إنه لأمل بائس ومرير أن تظل محاطا بقنابل موقوتة مفتاحها قرار شاب فلسطيني روحه رطبة بالثأر، وأكاد أجزم أن إسرائيل وأمنها سيظلان تحت رحمة هذا القرار.