الأحداث المتسارعة والمؤلمة التي تعيشها الأمة الإسلامية، وبخاصة في فتراتها الأخيرة، بعد حالات التراجع للربيع العربي، وتحقيق بعض نجاحات للثورة المضادة، وما تلا ذلك من أحداث جعلت الكثيرين من الشباب والكبار تصيبهم حالة من اليأس والقنوط، وسبب تسرب اليأس إلى كثير من الجماهير المسلمة والعربية: ما يرونه من تضييق على كل مظاهر التدين، وتجفيف منابعه، أو محاربة كل عمل يحقق حرية الناس، أو يوقظ الشعوب من سباتها. ثم ازداد الواقع سوءا بأن رأى المسلمون هذا التآمر العالمي ضد الإسلام وأهله، ففي كل بقعة من بقاع الأرض يسفك دم المسلمين بلا كرامة. بل تسرب اليأس إلى قلوب بعض الدعاة والشباب المتدين، وذلك بسبب: هذا التردي والتدني في أخلاق المسلمين وسلوكياتهم، وبعدهم عن دين الله عز وجل، وفجر وجبروت الأنظمة التي تحكمهم، والتي أصبحت تجاهر بالخيانة والعمالة للعدو.
كل هذه الأحداث وغيرها أوحت إلى الناس عامة: عدم الاستبشار بعودة مجد وعزة الحق وأهله من جديد، وخُيِّل إليهم أن الظلم في إقبال، وأن الحرية والعدل في إدبار، وأنه لا أمل في دعوة، ولا رجاء في إصلاح، ولا حيلة في ثورة أو نجاحها.
ويأتي هنا كتاب (المبشرات بانتصار الإسلام) للدكتور يوسف القرضاوي كمشعل نور يبدد دياجير هذا الظلام الذي يرسله كل طاغية وكاره للحق، فقد خطه بقلمه السيال، وعباراته الأدبية الرشيقة، وبنظرته الثاقبة في كتاب الله وسنة رسوله واستقراء التاريخ، يرسل أشعة الأمل، ويبدد ظلام اليأس. وفكرة الكتاب أصلها مقتبس من مقال كتبه الشيخ حسن البنا رحمه الله في مقال بعنوان: (أربعة أدلة) نشر في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية في السنة الثانية في العدد (513) الصادر في يوم الجمعة الموافق 20 من صفر سنة 1367هـ ـ 2 من يناير سنة 1948م. بناه على الدليل السمعي: القرآن والسنة، ثم الدليل التاريخي، والدليل الحسابي، وسنة الله التي لا تتخلف، غير أن شيخنا القرضاوي طور المقال إلى كتاب كبير، وزاد عليه من حيث النصوص والأدلة والأفكار بعمقه وواسع فكره وفقهه.
مبشرات من القرآن والسنة:
فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تبشر بانتصار الإسلام، ومنها: قول الله عز وجل: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة: 23،33. ومن مبشرات القرآن أيضا: قول الله عز وجل (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) النور:55، وبين أن الوعد مشروط بالإيمان وعمل الصالحات وعبادة الله وحده، وعدم الإشراك به.
وما اشتمل عليه القرآن الكريم من قصص الرسل وعاقبة المؤمنين والمكذبين، وهذا كثير في القرآن. ووعد الله بنصر المؤمنين وإنجائهم والدفاع عنهم، وبوعد الله بإحباط كيد الكافرين ومؤامراتهم، كل ما تم ذكره في القرآن من قصص الأنبياء مع ظلمة قومهم، ومتجبريهم، هو عظة وعبرة لنا، وبشارة لكل مظلوم بالنصر، فالله عز وجل ذكر هذا القصص كما قال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
أما المبشرات من السنة النبوية، والتي ذخرت بعدد هائل من الأحاديث التي تبشر بنصر الله لهذا الدين، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر" وقوله: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض" ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا".
مبشرات من التاريخ:
وإذا كان القرآن والسنة يبشران بانتصار الإسلام فالتاريخ كذلك يبشر بذلك، وقد استخلص القرضاوي من التاريخ حقيقتين مهمتين:
الأولى: أن النصر يأتي من الله عز وجل عندما يكون الناس أحوج شيء إليه، وعندما تغلق الأبواب في وجوه المؤمنين، إلا بابه سبحانه وتعالى، وشاهد ذلك ليلة الهجرة ونصر الله لرسوله، وغزوة بدر، والأحزاب وغيرها.
الثانية: هو المخزون النفسي والروحي الكبير، الذي تدخره الأمة، ولا يبرز إلا في المحن والخطوب، ودليل ذلك، حروب الردة، والحروب الصليبية، وحروب التتار، وحروب العصر الحديث التي ثبت فيها الإيمان أمام الكفر، وكان للمؤمنين الغلبة بتأييد الله ونصره، وكل ذلك شاهد أن التاريخ يبشر بانتصار الإسلام.
مبشرات من الواقع:
ولا يخلو الواقع المعيش من مبشرات، تمدنا بالأمل، مهما حمل من مآسي ومحن، فرغم أمراض الواقع وآفاته، فالواقع المريض لا يستمر، وعندما نقارن بين الأمس واليوم، إلى دور حركة الإحياء والتجديد من الإمام محمد عبده وغيره إلى الآن. وما قامت به الصحوة الإسلامية في الحياة، وقد أثبتت وجودها على الصعيد الفكري والاقتصادي والسياسي والجهادي، ما بين ما يحسب لها، وما يحسب عليها، لها إنجازات وإخفاقات. والمحن التي تحدث للدعاة في العصر الحديث لا تجعلهم ييأسون، فالمحن ليست علامة ضعف أو موت لدعاة الإسلام، إنما هي علامة قوة، كما أنها تزيدهم صلابة على صلابتهم، وقوة على قوتهم، إذا أحسنوا فهمها، والاعتراف بالخطأ فيها، والوقوف عليها بدقة، والعمل على معالجتها وتجنبها في المستقبل.
مبشرات من سنن الله في الكون:
وإذا كان القرآن والسنة والتاريخ والواقع يبشرون بانتصار الإسلام فهناك مبشر مهم هو: السنن الإلهية، تلك السنن التي وضعها الله في كونه هي لا سنن تتخلف، ومنها (سنة التداول) أو (المداولة) والتي يقول عنها الله عز وجل: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران:140، فالأيام دول يوم لك ويوم عليك، فاليوم الذي كان على المسلمين هو أمس واليوم، واليوم الذي لهم لا شك هو الغد إن شاء الله. وهناك سنة (التغيير) والتي يقول عنها الله عز وجل: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الأنفال:53.
كل هذه المبشرات التي ذكرها القرضاوي وفصل فيها تعطي أشعة من الأمل بالنصر، ولكن قد يعكر على المؤملين صفو أملهم عدة أحاديث قد يساء فهمها ويستشهد بها دعاة التشاؤم واليأس، وهي حديث: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبى للغرباء" وحديث: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه"، فهذه أحاديث تفيد أن البشرية في انحدار لا إلى تقدم، فكيف تبشروننا بالنصر وهذه أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، تنفي ما ذكرتموه؟! وهي أحاديث تفهم على غير مرادها الصحيح، ولكن الشيخ لم يدع العقول تحار في فهم هذه الأحاديث وشرحها شرحا يزيل غامضا، ويضعها في موضعها الصحيح، ويبين أنها تبين حالة توجب على الناس العمل لإصلاحها، وليس للاستسلام لها، فالإسلام طلب من المسلم العمل إلى آخر لحظة في حياته، وأنه مسؤول عن العمل، وليس مسؤولا عن نتائجه.
هذه المبشرات ليست مواعظ دينية يقوم بها داعية يدغدغ بها عواطف الناس، ولكنها خطوات عند التأسي بها والتنفيذ لها، والتخطيط والإعداد لها جيدا، تؤتي أكلها وثمارها، من عزة في الدنيا وامتلاك ناصية القوة المادية والمعنوية، فالناس تحيا برئتين: رئة العمل، والأمل، ولا غنى لعاقل عنهما، فالعيش بواحدة دون الأخرى يسبب فقدان التوازن.