الأستاذ الدكتور جمال عبد الستار رئيس الجامعة العالمية للتجديد والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة
رابطة علماء أهل السنة
تتعرض أمتنا لزلزلة ونكبات ومحن لم يتوقع أشد الناس تشاؤما وقوعها، فلابد من فهم طبيعة الزلزلة التي كتبها الله على السالكين
إن الزلزلة التي تتعرض لها أمتنا، والنكبات التي توالت عليها، والمحن التي داهمتها، والبلايا التي عصفت بعقول بعض أبنائها، والأحداث المتسارعة التي هذت كيانها، وظهور صور من الفتن لم يتوقع أشد الناس تشاؤما وقوعها، أحدثت في النفوس تغيرًا كبيرًا، وتركت آثارًا مروعة.
وكان من أخطر تلك الآثار أن اهتزت في القلوب ثوابت عدة، وتساقطت رايات، وتغيرت قناعات ، وظهرت بوادر انقسام في بعض الكيانات، وتراجع في كثير من القناعات، ومما زاد الأمر سوءًا أن غابت عن الأمة قيادتها، وفقدت في الليالي الحالكة ريادتها، وتداعى عليها الأكلة من كل حدب وصوب، وهي تتطلع إلى رؤية تخرجها، أو قائد ينقذها، أو إلى مشروع تضع عليه أملها.
يأتي ذلك في الوقت الذي أخذ البعض منها يُسلي نفسه بعالم الرؤى والأحلام، ويبيع للناس الأماني والأوهام، وغيره أخذ يبحث عن المهدي وترك الأخذ بالأسباب، وأهدر إتقان الأعمال، وما أراه الا سيلقى حتما الدجال، والآخر أخذ يتغنى بماضيه، وغيره أضحى يرمي بالاتهامات على كل من يلاقيه، وذاك قابع في بيته مبتئسًا علته الكآبة لايري في الأفق خيراً، ولايسوق إلى الناس هدى، وهناك من كفر بقناعاته، وتخلى عن مبادئه ومنطلقاته. ناهيك عن أناس ضلوا الطريق، فسارع بعضهم إلى تنظيم الدولة منتحرًا، وبعضهم إلى الإلحاد مندحرًا، وثالث إلى الانحلال منكسرًا ، وليس ذلك بعجيب، بل العجيب حقًا أن يظن بعضنا أن الزلزلة لن تحدث، مع أنه سمع القران مرارًا يتحدث عن معالمها، قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب". (سورة البقرة).
فالزلزلة قدر ثابت، وسنة ربانية لن تتحول ولن تتبدل ، حيث تثبت الآية الكريمة أن الطريق إلى الجنة مرهون بالنجاح في عبور الزلزلة، والقرآن يتعجب من تلك العقول التي تظن أنها ستدخل الجنة دون أن تُزلزل كزلزلة من سبقها!
والزلزلة قد تُسبب اضطرابًا في الفكر، وفقدانًا في التوازن ، وضبابية في الرؤية واهتزازًا في الثوابت، وتخبطًا في المنطلقات، وقد مر بها الصحابة الكرام ، ووصفها القرآن بدقة بالغة، لدرجة أنه جسدها في مشهد مروع ملموس، وليس مجرد إحساس يعتلج في النفوس فقال تعالى: إ"ِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا". (سورة الأحزاب).
وتعبير "وتظنون بالله الظنونا" يدل على أن الزلزلة هزت كيانهم، واختبرت ثبات إيمانهم، وذهبت بنفوسهم كل مبلغ، فهو اختبار الإيمان المزلزل، بالوساوس القاتلة، والنزغات الفتاكة، وشدة المحنة، مما أظهر خلل الأفهام وضعف المعتقدات، فسقط المنافقون، وسقط معهم المرضى الذين لم تتشرب قلوبهم بالإيمان قائلين: "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا"!!!
وهاهي التجربة تتكرر فقال البعض: أين الله؟ وقال الآخر: لماذا يرضى الله بمذابحنا؟، وقال غيره: لماذا لم يعطنا المعجزات والكرامات مادام قادرًا؟ ، وقال آخر: الله الذي لم ينصرنا، وقال غيرهم: كنا في غرور فلا يوجد إلاه ولايوجد دين!!!
وكأنهم آمنوا بالله على شرط عدم المرور بالتمحيص والابتلاء، وعدم التعرض للإيذاء، وضمان سلامة الأعضاء، وتحقيق الأماني دون بذل أو عناء، ولم يكن إيمانهم بالله تعبدا وإخباتا ، ومحبة وإجلالا، وعبودية واستسلاما، وثقة في تقديره واطمئناناً.
ولم يدركوا أنها كما قال أهل العلم: سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ، وليكونوا لها أهلاً : وأن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة،استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دينه ، صالحون لصيانته والذود عنه ..
فعلينا أن ندرك أن غاية مايسعى اليه أعداؤنا في هذه الزلزلة هو أن يتصدع بناؤنا ، وأن ننهزم من داخلنا، وأن نفقد الثقة في أنفسنا ومعتقدنا وقضيتنا ، غايتهم أن نفقد الآمل، وأن يلتفت بعضنا إلى بعض مخوناً،أوأن ننشغل بإلقاء التهم على بعضنا البعض، وهذه ليست صفة المؤمنين ،فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، واجبهم أن ينشغلوا بعدوهم، وليس أن ينشغلوا ببعضهم .
لذا.. فلابد من فهم طبيعة الزلزلة التي كتبها الله على السالكين، والاستبشار بفرجه بعد اليقين، والاطمئنان لحكمته ورعايته لعباده الصالحين، وصدق اللجوء إليه، وحسن الاعتماد عليه، والأخذ بما تيسر من الأسباب مع وافر الصبر والثبات. وللحديث بقية إن شاء الله.