الأحد 22 ديسمبر 2024 10:09 صـ 20 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    غربة الفقه السياسي ح2 (الآثار )

    رابطة علماء أهل السنة

    غربة الفقه السياسي ح2 (الآثار )

    د. سعد الكبيسي
     
    لقد مر معنا في المقال السابق الحلقة الاولى اسباب غربة الفقه السياسي ونريد هنا في الحلقة الثانية بيان بعض الآثار لهذه الغربة على الساحة الإسلامية:

    1ـ عدم ممارسة المجتمع الإسلامي لحقوقه السياسية بسبب الملك العضوض في القديم والحديث والذي جعله فقيراً أو بالأحرى معدماً من الحد الأدنى من الثقافة والوعي السياسي، فشعوبنا الإسلامية في هذا المجال تعاني من السطحية والبساطة حيث يسوقها الحكام وتدفعها العواطف وتنقصها الخبرات، حتى أصبحت الشعوب ـ بما فيها الحركة الإسلامية ـ أحياناً رصيداً جاهزاً لاستثماره في تصفية الحسابات واستدعائه إلى حروب غير محسوبة، وليست لها أي مصلحة في خوضها، أو حتى في قطف ثمارها إن كانت لها فيها مصلحة.

    قلة الوعي السياسي هذه جعلت المجتمع الإسلامي ينظر إلى النخبة السياسية المسلمة أنها تلوث نفسها فيما لا ينبغي، فضلاً عن ألقاب الخيانة والعمالة والتآمر والنفعية التي تطلق جزافاً ومن غير وعي.

    كل ذلك دفع نخبة العلماء إلى الانسحاب من الساحة خوفاً من غضب الجماهير بدلاً من أن تمارس دورها الحقيقي في توعية الجمهور من المسلمين توعية شرعية سياسية صحيحة، تراعى فيها مصالح الأمة العليا وتدرأ عنها المفاسد الكبرى.

    وتجلى عدم الاستعداد لتحمل تبعات تثقيف وتوعية الجماهير عن بقاء الجماهير تزمجر في الهواء، وتمجد من يخدعها، وتقرر هي من يقودها –دون وعي- ولو إلى الهاوية، وبذلك الانسحاب تنتفي الحاجة إلى الاجتهاد الشرعي في السياسة ونوازل الأمة، لان الجماهير هي التي تجتهد فيها، ويبقى للعالم دوره في الزواج والطلاق والبيوع والحيض والنفاس!!!.

    ثم ما تلبث هذه الجماهير أن تصحو وتتعلم ولكن للأسف بعد فوات الأوان.

    2ـ إن المستجدات والنوازل في السياسة والاقتصاد تعد الأكثر والأغلب في عصرنا لما حدث ويحدث من تطور وتجدد هائلين في هذين البابين.

    وإن هذا التطور معقد أشد التعقيد إلى الحد الذي يجعل الاجتهاد الفردي فيه شاقاً وقليل الجدوى والإصابة، ويجعل غرائب الفتاوى وساذجها تظهر، وتجعل الأفراد من العلماء المخلصين يفرون إلى غيرها من الاجتهادات لما فيها من هذا التعقيد، فتبرز الحاجة أكثر إلى المؤسسات البحثية الشرعية الجماعية لتضم هؤلاء العلماء، وتوفر لهم المعطيات والمعلومات والمصداقية.

    لقد سدت مجامع الفقه الإسلامي المتعددة كثيرا من النقص وبذلت في هذا الصدد جهوداً مباركة، لكن غالب قراراتها في المعاملات المالية والطبية والاجتماعية، وليس لها فتوى في الفقه السياسي، ربما لسببين:

    الأول: لأن الفتوى فيه خاضعة لظروف هذا البلد أو ذاك وليس من الصواب وجود فتاوى عامة.

    الثاني: وجود الأنظمة السياسية التي لا تطلق العنان للاجتهاد في مثل هذا الباب.

    3ـ إن المستجدات والنوازل السياسية عولجت من كثير من فقهائنا ومفتينا من خلال التفتيش في بطون الكتب عن فتاوى السابقين لمشاكل الحاضر، وكم بين الماضي والحاضر من فروق واختلافات، فمثلاً موازين القوة والضعف، ودار الكفر ودار الإسلام، وآليات الشورى والانتخاب، وتصنيف الأعداء، وفقه الأقليات، والحاكم المسلم الذي لا يحكم بالإسلام، وغيرها كلها طرأ عليها التغير الشديد الذي يحتاج إلى الاجتهاد الواعي، المبني على المصالح والمفاسد في متغيرات المسائل لا في ثوابتها ـ والثوابت قليل في باب السياسة الشرعية ـ، والضعف هنا نشأ من خلال أقيسة مع الفارق، يقوم بها بعض الفقهاء فيقيسون الماضي على الحاضر، وفي هذا ما فيه من الخطأ الجسيم إذ الفتوى تتغير زماناً ومكاناً وشخصاً.

    4ـ إن العلماء والساسة المسلمين حملة مبادئ وقيم، والسياسة قائمة على المصالح المتغيرة والتكتيكات المرحلية التي تحقق وتخدم القيم والمبادئ والاستراتيجيات الكبرى، ونحن مأمورون بتحصيل أعلى المصالح ودفع أعلى المفاسد، وفي ذلك من النسبية وألوان الطيف وعدم الحصول على الحالة المثالية ما تجعل الكثير لا يستوعب، أو يتحمل نفسياً كثيراً من السياسات النسبية الممكنة التي تجلب المصلحة وتدفع المفسدة في حدود الممكن، فيسارع إلى الإنكار قبل الاستعلام، والى رؤية المفاسد دون المصالح، وإلى التطلع إلى الكمال المستحيل دون الممكن المستطاع.

    وبذلك ابتعد الكثير من العلماء أو أبعدوا أنفسهم أو أبعدهم السلطان عن الحياة، فلا حصلوا على الكمال الموهوم، ولا جلبوا للمسلمين المصالح المرجوة أو دفعوا المفاسد المتوقعة، وما أمرنا ألاّ بما يستطاع، مما أنتج عزوف الكثير من سواد المسلمين عنهم، ليتعلقوا بذيل علماني أضاع عليهم الدين والدنيا، وتمكّن عندهم الشعور بأن هؤلاء الفقهاء يعيشون في متاهات التاريخ، ولا يفقهون من سياسة الدنيا والناس وتدبيرهم شيئاً، والأولى أن يبقوا في مساجدهم وصوامعهم.

    5ـ عدم اتضاح الكثير من الخطوط الفاصلة بين المفتي والسياسي، ولا اعني طبعاً الفصل بينهما فقد يكون المفتي سياسياً ويكون السياسي مفتياً إذا ما جمع التمكّن في الفقه والسياسة، ولكن أعني عدم اتضاح مجال كل واحد منهما، لأنه في الحقيقة وجود المفتي السياسي والسياسي المفتي عزيز ونادر في مثل أحوال عالمنا المعاصر، والمشكلة تكمن في لعب المفتي دور السياسي وهو بعيد عن ألاعيبها وتكتيكاتها ومصالحها ومفاسدها، إذ يحتاج بالضرورة المشورة من أهل الاختصاص من الساسة الثقات ليصدر الحكم الشرعي المناسب، وبالعكس نجد السياسي يلعب دور الفقيه والمفتي وهو يجيز لنفسه كثيراً من الأحكام التي لم تبن على الضرورة أو تبنى على المصلحة الملغاة، إذ هي مفسدة في حقيقة الأمر.

    والذي اقترحه في هذا المجال:

    أولاً: الضغط في اتجاه تضمين المناهج في المؤسسات التعليمية الرسمية مقررات في السياسة الشرعية، وفتح الأقسام الخاصة بها في جامعات العلوم الإسلامية والعلوم السياسية، وبدرجة أقل في جامعات الإدارة والاقتصاد والقانون.

    ثانيا: التركيز على أولوية تدريس السياسة الشرعية في التعليم الديني المستقل والحلقات العلمية الخاصة.

    ثالثا: فتح الحوار مع العلمانيين الذين يتصورون أن الفقه السياسي الإسلامي قائم على الثوابت والمطلقات والحلال والحرام دون  مراعاة المصالح، واجزم بدون أدنى شك أن الكثيرين منهم سيصدمون بعد معرفة نظرية الشريعة في الإدارة والحكم.

    الفقه السياسي غربة

    مقالات