لقد أمر الله سبحانه وتعالى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم بأن: يعبدوه وحده لا شريك له، فهو خالقهم الذي أوجدهم من العدم ،وهو ربهم الذي يربيهم ويدبر شؤونهم ،ويمدهم بنعمه الظاهرة والباطنة التي تعود عليهم بالنفع في حياتهم ؛كالرزق والتقدير والتدبير ،والتصوير والتسخير ،ومايتصل بذلك من كل ماله علاقة بالأبدان وصحتها وجمالها، والقوى النفسية ونمائها، كما أمدهم سبحانه وتعالى بنعمه التشريعية من التحليل والتحريم ،والذي عليه مدار التربية الروحية.
وقد ورد الأمر بالعبادة في آيات كثيرة من كتاب ربنا عز وجل. ففي سورة البقرة يقول سبحانه: (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)
وفي سورة النساء يقول سبحانه : (واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا) وفي سورة الحج قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) وأخبر سبحانه في سورة الإسراء بأنه قضى ألا يعبد غيره فقال: (وقضى ربك ألاتعبدوا إلا إياه ) وقال بعد ذكر الأنبياء في السورة التي سميت بإسمهم : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) وأمر الله عزوجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وماربك بغافل عما تعملون ) وقوله تعالى : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وفي قوله سبحانه : (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) والأمة كلها في هذه الأوامر تابعة له صلى الله عليه وسلم. وبين- عز وجل- في سورة الذاريات أن العبادة مطلوبه من عباده فقال تعالى: (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ماأريد منهم من رزق وماأريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
وليس الجن والإنس فقط هما المكلفان بالعبادة، بل كل ما في الوجود يعبد الله الواحد المعبود، وإنما خص الله عزوجل الجن والإنس بالذكر في أمر العبادة؛ لأنهما المكلفان إختيارا أما بقية الخلائق: فإن عبادتهم لله فطرية جبلية خلقية ؛ طبعهم الله عليها كما قال سبحانه : (وإن من شئ إلايسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )
فكل ما في السماوات من ملك تسبيحه : لاإله إلا هو، وكل مافي البحار من سمك هتافه : لاإله إلا هو، وكل ما على الأرض من جبال، ووهاد وزروع،وثمار وأشجار وحيوان ،ووحش، وطير ندائه : لاإله إلا هو .
وقد أرسل الله - عزوجل- رسله جميعا وكان أول ماأمرهم به أن يبلغوه للناس هي : عبادة الله الواحد القهار . قال سبحانه وتعالى:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
فنوح عليه السلام قال لقومه: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) وهود عليه السلام قال لقومه:(اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) وكذلك صالح وشعيب عليهما السلام،- وسائر أنبياء الله عز وجل- كل قال لقومه : (اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
فعبادة الله تبارك وتعالى هي : سمة الوجود كله، وسمة الخلائق جميعا يقول سبحانه : (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ،ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال، والشجر والدواب، وكثير من الناس ،وكثير حق عليه العذاب ،ومن يهن الله فما له من مكرم،إن الله يفعل ما يشاء )
ولكن ماهي العبادة التي كلفنا الله رب العالمين بها؟ وكيف نحققها حتى يرضى عنا ربنا عزوجل؟
عرفها شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- بقوله : هي أمر جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والبعد والبراءة، مما يخالف ذلك. وقال غيره في معناها : العبادة هي نهاية الخضوع والذل للمعبود. فهي أقصى غايات الخضوع ،والتذلل مع كمال المحبة وتمام الخوف، واستشعار القلب بالقوة الغيبية التي لا يعرف كنهها ، ولاتدرك حقيقتها ، وأن لها من السلطان والعظمة، والإحاطة بالمعبود مما يجعل الإنسان دائم الذل والخضوع، من غير أن يعرف لذله أو خضوعه سببا ؛إلا أنه عبد لمولاه.
ومفهوم العبادة في الإسلام : واسع وكبير فهي تشمل ، وتعم كل قول وفعل وسلوك، وتحرك يرضى الله عزوجل . فصورها عديدة ، وهيئاتها مختلفة ، فمنها مايتعلق بالأبدان ،كالصلاة التي يتجه فيها العبد لربه، بالقيام والقراءة، والركوع والسجود. وكالصيام الذي يتقرب به الصائم إلى الله تعالى ؛ بترك المفطرات والإمساك عن المشتهيات ،وهو من الأعمال البدنية المحضةأيضا. ومنها مايتعلق بالأموال كالزكاة والصدقة، والنفقة في وجوه البر والخير ، فالعبد المنفق هنا : يؤدي حق الله في ماله ؛ فهو يقوم بعمل مالي محض، ومنها ما يتعلق بالأبدان ، والأموال معا ؛كالحج والعمرة والجهاد في سبيل الله ، فالمؤدي لهذه الأعمال العظيمة والعبادات الجليلة: يقوم بعمل بدني ، فيه حركة وسعي ، مع ماينفقه من مال في سبيل ذلك .
وأمر العبادة لايتوقف وينتهي عند هذه العبادات والشعائر فحسب . وإنما يعد طاعة لله وعبادة : كل عمل يقوم به المسلم ؛ فينفع به نفسه، وينفع به الناس. ومن أهمها إتباع منهج الله عزوجل في جميع مناحي الحياة، ومحافظة الإنسان على تعاليم دينه، واتباعه لهدي نبيه- صلى الله عليه وسلم- فهذا كله من أسس العبادة. وترتيب المسلم لحياته ، وتنظيمه لبيته، و توجيهه لنفسه، وزوجه، وأولاده على منهاج الإسلام العظيم؛ عبادة لله رب العالمين.
وخضوع الإنسان لنظام الإسلام في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه، وخصوماته ونزاعاته، وأفراحه وأحزانه، وحله وترحاله ، وفي كل أحواله هو: عبادة لله عزوجل.
ومن أصناف العبادة أيضا، وصورها كسب المال الحلال، والإنفاق منه فيما يرضي الله تبارك وتعالى ، وقد جاء في الحديث : نعم المال الصالح؛ للعبد الصالح يصل به رحمه ويعرف حق الله فيه.
كذلك تمتع الإنسان بالنظر في ملكوت الله عزوجل ، في السماء ومافيها، والأرض وما عليها، والبحار ومافي أعماقها؛ ليصل إلى التفكر في عجائب خلق الله ، وبديع صنعه فهذا أيضا من أجل العبادات.
والصدع بالحق؛ لإعلاء كلمة الله- عزوجل- ورفع راية الإسلام خفاقة، والوقوف في وجوه الظالمين : من أعظم العبادات فقد قال صلى الله عليه وسلم : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .
ومن أنواع العبادة كذلك الطعام والشراب ،والنوم فإذا أكل العبد المؤمن أوشرب ،الحلال الطيب وتجنب الحرام الخبيث؛ ليتقوى على طاعة الله ذاكرا لأنعم ربه عليه، معترفا بفضله كان طعامه وشرابه : عبادة ونال عليه الأجر. وإذا نام ليستريح من عناء يوم ولى ومضى ،ويعد نفسه ليوم جديد ؛ يعبد الله فيه كان نومه عبادة.
وإذا مارس المسلم الرياضة البدنية، بأنواعها المختلفة النافعة ، أو واحدا منها بقصد تقوية جسده على عبادة الله وفعل الخير، ونفع نفسه والمسلمين فإن الرياضة تعد عبادة يحصل صاحبها على ثواب وأجر.
بل الأعجب من ذلك لو قضى الإنسان وطره مع زوجه ،وأتى شهوته الحلال فإنه بذلك يعبد الله عزوجل مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : و في بضع أحدكم صدقة. قالوا يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته وينال أجرا؟! فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام ! يعني سينال الإثم ، ويرجع بالخزي، إنه كذلك لو فعلها في الحلال نال الأجر والثواب من رب العباد.
وهكذا نجد أن معنى العبادة، ومفهومها يتناول شؤون الحياة بأسرها
ولكن يتوقف قبولها واعتبار العمل عبادة على أمرين أساسيين الأمر الأول: الإخلاص في العمل قولا كان أوفعلا، أوصفة فلا يقصد بعمله وعبادته غير الله عزوجل ومرضاته، ولاتكون وجهته إلا لربه سبحانه
فيبتعد عن الرياء والسمعة ،و لا يسعى لحب الظهور والشهرة وغير ذلك مما يخرج بالعمل أن يكون عبادة لله. ولذلك علمنا الله عزوجل أن نناجيه في كل ركعة من صلاتنا بقولنا : إياك نعبد وإياك نستعين . وقد أمر الله تعالى رسوله- صلى الله عليه وسلم- بالعبادة والإخلاص فيها، والأمر لنا كذلك ؛ بحكم أننا مطالبون بمتابعته عليه الصلاة والسلام قال تعالى: ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) وقال أيضا : ( قل الله أعبد مخلصا له ديني)
الأمر الثاني: أن يكون العمل صحيحا، موافقا لشرع الله، ومابينه رسوله- صلى الله عليه وسلم- وعلمه للمسلمين. فإن كل عمل ، أوقول يخالف شرع الله- عزوجل- ومنهج رسوله- صلى الله عليه وسلم- أو فيه زيادة أو نقص فهو مردود على صاحبه ويرشد في ذلك إلى الأمرين قوله عزوجل: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولايشرك بعبادة ربه أحدا)
فالعمل الصالح هنا هو: ماكان وفق شرع الله، وبيان رسوله .
وعدم الإشراك يعني البعد عن الرياء ،وطلب وجوه الناس.
والمسلمون الأوائل من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان والذين أكرمهم ربهم عزوجل دنيا وأخرى، فعاشوا أعزة ،وماتوا سعداء ،كانت حياتهم كلها عبادة لله تبارك وتعالى ،كانوا قرآنا يمشي على الأرض، وكانوا يمثلون المجتمع الرباني السليم ،الذي فتح الله به العالم، ونشر به النور، وهدى به البشرية، بعد أن كانت ضالة حائرة، والسر في ذلك: أنهم فهموا معنى عبادة الله عزوجل، فقاموا بها خير قيام ، وأدوها على أفضل ما يكون الأداء، وطبقوها في واقع حياتهم ، على الوجه الأتم الأكمل ؛ فسعدوا في الدارين. فينبغي علينا الإقتداء والتأسي بهم ،والسير على دربهم، والتشبه بحالهم وسلوكهم ، فإن التشبه بالرجال؛ فلاح وصلاح
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، وأوليائك المتقين ،وجندك الغالبين، وحزبك المفلحين
الراجي عفو ربه
فايز النوبي