الخميس 24 أبريل 2025 11:21 مـ 25 شوال 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    آيةُ الكرسيّ والمبدأُ الجوهريّ

    رابطة علماء أهل السنة

    في عالم النُّظُم لا يوجد من المبادئ ما يمكن أن يعلو على «السيادة»، فمنذ أن وضع «جان بودان» كتابه «الجمهورية» وتحدث فيه عن السيادة كمبدأ جوهريّ؛ والأمم تُصَدِّر دساتيرَها بهذا المبدأ الخطير الذي يحدد هوية البلاد، حتى الذين تعرضوا للحديث عن العقد الاجتماعي -بدءًا من توماس هوبز ومرورًا بجون لوك وانتهاء بجان جاك روسّو- كان كلٌّ منهم يتحدث عنه وعينُه على السيادة؛ أين يضعها؟ فأمّا الأول فوضعها في يد الملك؛ للخلاص من ازدواجية الولاء الموزع بين الكنيسة والقصر، وأمّا الثاني فأشرك البرلمان مع الملك في حيازتها والتصرف بها، وأمّا الأخير فقد مَحَّضها للأمّة وحسْب، لكن في النظام الإسلاميّ السيادةُ خالصةٌ للشرع المعظم، وهذه إحدى مسائل الإجماع الكبرى التي تُعَدُّ من القطعيات المعلومة من الدين بالضرورة، وإذا كانت سورة المائدة -وقبلها النساء- قد تولت تقرير هذا المبدأ؛ فإنّ ما لا يدركه الكثيرون أنّ آية الكرسيّ سبقت إلى تقريره.

    أيُّ آية في كتاب الله أعظم؟

    روى الإمام أحمد وغيره عَنْ أُبَيٍّ بن كعب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: «‌أَيّ ‌آيَةٍ ‌فِي ‌كِتَابِ ‌اللهِ ‌أَعْظَمُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدَهَا مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ أُبَيٌّ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ»، وسواء صحّ الحديث أم لم يصحّ - وأحسبه صحيحًا لأنّه صحيح الإسناد ولا يخالف الأصول - فإنّ معناه تؤيده الآية بكلّ ما فيها من حقائق كلّية راسية، (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ ‌لا ‌تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، هذه هي آية الكرسيّ، وقد برز فيها (الكرسيّ) الذي يرمز للسيادة، مع هذه الأسماء الأربعة من الأسماء الحسنى «الحيّ القيوم العليّ العظيم» التي تحمل معاني السيادة.

    اسمُ اللهِ الأعظمُ ودلالة تَصَدُّرِهِ الآيةَ:

    عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطه» وقد حَسّنَ العلماء هذا الحديث موقوفًا، وهو يعني أنّ اسم الله الأعظم هو «الحيّ القيوم»؛ لوروده في السور الثلاث هكذا: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ ‌لا ‌تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)، فمن دعا به استجيب دعاؤه لأنّ من معاني القيوم: القائم بنفسه الذي يقوم به كلّ ما سواه، وهو معنى إذا قام بنفس الداعي أورثه ذلًّا وافتقارًا لله وحده، وهذه حالة تجعل الدعاء مستجابًا، لكنّ ما يغفل عنه الكثيرون هو أنّ القوامة أحد المكونات الرئيسية لمعاني القيوم، فهو قيّوم وقيّام، أي: حاكمٌ له على خلقه السلطان التام، فمنه وحده يصدر التشريع الذي يُلزِم الكافّة، وإذا كانت نظرية جان بودان المعمول بها إلى الآن قد عَرَّفت السيادة بأنّها «التفرُّد بالحقّ في إنشاء الخطاب الملزِم»؛ فإنّ الجهة الوحيدة التي تستحقّ هذا الوصف الجامع المانع هي السيادة الإلهية المتمثلة في التفرد بالتشريع، ولاسيما مع تلك الخصائص التي نصّت عليها النظرية: الوحدانية والسمو والإطلاق والأصالة والعصمة من الخطأ، واسم «الحيّ» أكثر دلالة على تفرد الحق تبارك وتعالى بالسيادة؛ لأنّ حياته هي الحياة الحقيقية التي لا يتمّ استيعابها إلا بهذه الأسماء «الأول والآخر والظاهر والباطن» بما تحمله من معاني الإحاطة، وأمّا «العلي العظيم» فلا أدلّ على السيادة من العلو والعظمة.

    العناصر الرئيسة لمعنى السيادة:

    فإذا ما دخلنا في مضامين الآية وجدناها عجيبة في تركيبها وفي عمق دلالة هذا التركيب على السيادة، فالسيد يستمدّ سيادته على الشيء من ملكيّته له، ثم من قوامته الدائمة المستمرة عليه، ثم من علمه المحيط به، ثم من حفظه له وعنايته به، هذه المعاني الأربعة كلُّ معنى منها دلّ عليه السياق بأسلوبين متكاملين (الإثبات والنفي)، فالآية الكريمة "مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ"، نصفُها إثبات ونصفها نفي، وهي ماضية من أولها إلى آخرها على نحو متسق بين الإثبات والنفي، الإثبات يرسخ المعاني الأربعة (القوامة والْمِلْك والإحاطة والحفظ)، والنفي يؤكدها بنقض احتمالات النقص فيها، وهي تتدفق في الآية من المبدأ إلى المنتهى على محورين كما يندفع القطار على قضيبين، الأول إثبات والثاني نفي، وللمسار إقلاعٌ وإنهاء، فأمّا الإقلاع فمن هنا: (الله لا إله إلا هو)، وكلمة الإخلاص مع اسم الجلالة أقوى منصّة للإقلاع، أمّا الإنهاء فهو هناك في آخر الآية حيث تتبدى السيادة في أوج علوها وعظمتها: (وهو العليّ العظيم)، وبين الإقلاع والإغلاق تمضي السيادة على المحورين.

    فالقوامة على الخلق والقيام عليهم يترَسَّخ بهذه الجملة (الحيّ القيوم)، وحياتُه سبحانه وقوامتُه لا تتم إلا بهذا النفي: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، وهاتان الجملتان: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ) تُثْبتان الْمِلْك التامّ لله وحده بلا شريك، الأولى بالإثبات، والثانية بالنفي، فمن تمام تفرد الله تعالى بهذا المِلْك وعدم مشاركة أحد له فيه أنّ أحدًا لا يملك الشفاعة عنده إلا بإذنه، وإذا كان تمام المِلْك من لوازم السيادة التامّة؛ فإنّ الإحاطة التامّة كذلك، وقد رسَّخَتْها الآية الكريمة في هاتين الجملتين: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِما شاءَ)، فمن تمام علمه المحيط بكلّ شيء أنّ أحدًا لا يمكن أن يظفر بشيء من علمه إلا بما شاء، ولأنّ كرسيَّه وسع السماوات والأرض، ولأنّ سلطانه غمر الكون بالعزّ الإلهيّ، وأسبغ على الوجود كله من فيض العناية الإلهية؛ فإنّه لا يؤوده حفظهما، ولا يثقله ولا يكرثه ولا يعييه.

    سيادة الشرع المعظم:

    وإِذَنْ؛ فالله وحده صاحب السيادة، المتفرد بالحقّ في الأمر والنهي والتشريع وفي إنشاء الخطاب الملزم، السيادة بخصائصها: الوحدانية والسمو والإطلاق والأصالة والعموم والشمول والعصمة من الخطأ، والله الموفق لكل خير.

    آيةُ الكرسيّ المبدأُ الجوهريّ السيادة

    مقالات