معاناة المرأة في زمن موسى ..(18) رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة


لما أوحى الله إلى موسى عليه السلام وأمره بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله، قابل فرعون هذه الدعوة بالرفض والاستكبار، وقتل السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام.
واستمر موسى في دعوته فترة من الزمن، ولكن لم يؤمن ﴿لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 83].
وفرعون محاط بحاشية سيئة مثله، تربَّت على يده، وأمدَّهم فرعون بسلطانه ليبطشوا بالناس، فلما رأت هذه الحاشية السيئة استجابة الناس لدعوة موسى، حرَّضوا فرعون على موسى ومن آمن معه، فقالوا لفرعون: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127].
لقد عاد فرعون إلى أسلوب قتل الأطفال وإهانة النساء وإذلالهم، وعودته هذه المرة ليس بسبب الخوف من ولادة من يُذهب الله ملك فرعون على يده، ولكن ليصدَّ الناس عن دين الله، ويبعدهم عن الإيمان بدعوة موسى عليه السلام.
وهذا فعل الجبناء الذين لا مروءة لهم، ولا يملكون مقارعة الحجة بالحجة، فيلجؤون إلى تأليب الطغاة على الدعاة إلى الله، ويستخدمون في صدِّ الناس عن دين الله وعن الالتفاف حول الدعاة مثل هذه الوسائل القذرة؛ من سجن النساء وانتهاك أعراضهنَّ، وسجن الأطفال وترويعهم.
ولا يزال هذا الأسلوب الفرعوني يطبق على دعاة المسلمين في كثير من المجتمعات إلى يومنا هذا.
طبَّقه النصارى في الأندلس ضد المسلمين، واستخدمه اليهود في فلسطين، واستخدمه الطغاة في بلاد المسلمين، وما سجون سورية عنا ببعيد، وهم بهذا الفعل ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 32-33].
ولكن المفاجأة العجيبة، والتي لم تخطر على بال فرعون، أن يدخل الإيمان قصره كما دخله موسى وهو في المهد، فيستقر في قلب امرأة فرعون التي قالت يومًا ما: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ [القصص: 9]، فنفعها الله بدعوة موسى فآمنت به.
فلم يتردَّد فرعون في تعذيبها لصدِّها عن دين الله، ولو كانت أقرب الناس إليه. فصلبها في الشمس وعذَّبها عذابًا شديدًا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْتَدَ لِزَوْجَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ فِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، فَكَانَ إِذَا تَفَرَّقُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَتْ: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11]. فَكَشَفَ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ. (رواه أبو يعلى)
قال ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِي رَحِمَهُ الله: ((اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهَا فَبَنَى لَهَا بَيْتًا فِي الجنَّة)). (جامع البيان 23/ 114).
وقال ابنُ القيِّم رَحِمَهُ الله: ((فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون فِي الجنَّة؛ فإن الجار قبل الدار)). (الفوائد 1/ 285).
وقال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: ((فوصفها الله بالإيمان والتضرُّع لربِّها، وسؤالها لربِّها أجلَّ المطالب، وهو دخول الجنَّة، ومجاورة الربِّ الكريم)). (تفسير السَّعْدِي 875).
والتضرُّع الذي يشير إليه الشيخ السعدي رحمه الله، هو وسيلة المؤمنين التي لا ينبغي الغفلة عنها لحظة، ولا الشكُّ في أثرها في مقاومة فراعنة الزمان، قال تعالى مادحًا المؤمنين الذين يتضرَّعون إليه في مثل هذه الأحوال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75].
فالمؤمن يملك أقوى سلاح في الدنيا، وهو الدعاء والتضرُّع واللجوء إلى الله لرفع ظلم الظالمين، وخاصَّة إذا كان هذا الدعاء من ضعفة المسلمين، ومن عموم النِّساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ تُنْصَرونَ وتُرْزَقونَ إلا بِضُعَفائِكُمْ؟)). (رواه البخاري).
وفي رواية النسائي: ((إنَّما تُنْصَرُ هذه الأُمَّةُ بَضُعَفائِها؛ بِدَعْوَتِهِمْ وصَلاتِهِمْ وإخْلاصِهِمْ)).
أختي الكريمة، بيدك أن تكوني سببًا في نصرة الأمة، وتفريج كربة علمائها، ودعاتها من سجون الطغاة، بتضرُّعك لله، ودعوتك الصالحة لهم، والدعاء بهلاك الظالمين والطغاة، وإزاحة الهمِّ عن الأُمَّة.
وإياك وموالاة الظالمين، أو الثناء على فعلهم، أو الدعاء لهم بطول العمر، أو الركون إليهم، فإن الله حذَّرنا من ذلك فقال: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود: 113].
ولك في آسية بنت مزاحم امرأة فرعون أسوة حسنة، إذ سألت الله أن ينجيها من موافقة فرعون على عمله، فقالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11].
قال ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِي رَحِمَهُ الله: ((تَقُولُ: وَأَنْقِذْنِي مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَمِنْ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَذَلِكَ كُفْرهُ بِاللَّهِ)). (جامع البيان 23/ 116)
وقال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: ((فوصفها الله بالإيمان والتضرُّع لربِّها، وسؤالها لربِّها أجلَّ المطالب، وهو دخول الجنَّة، ومجاورة الربِّ الكريم، وسؤالها أن ينجيها الله من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة، ومن فتنة كلِّ ظالم، فاستجاب الله لها، فعاشت فِي إيمان كامل، وثبات تامٍّ، ونجاة من الفتن، ولهذا قال النَّبِي صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرِّجال كثير، ولم يكمل من النِّساء، إلا مَرْيَم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة عَلَى النِّساء، كفضل الثريد عَلَى سائر الطعام)). (تفسير السعدي 875).
ولذلك جعلها الله مثلًا للمؤمنين فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾ [التحريم: 11]، قال ابن القيِّم رَحِمَهُ الله: ((وَوَجْهُ الْمَثَلِ أَنَّ اتِّصَالَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا إذَا فَارَقَهُ فِي كُفْرِهِ وَعَمَلِهِ، فَمَعْصِيَةُ الْغَيْرِ لَا تَضُرُّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ إذَا أَضَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَتَأْتِي عَامَّةً، فَلَمْ يَضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ اتِّصَالُهَا بِهِ وَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ الْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَلُوطٍ اتِّصَالُهُمَا بِهِمَا وَهُمَا رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ)). (إعلام الموقعين 1/ 145).
لقد فازت امرأة فرعون بالجنة، وأهلك الله فرعون وجنوده، وانتهت معاناة المرأة في زمن فرعون وعلى يده، وبقيت كلمة الله هي العليا، وبُعث نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وبدعوته انتهت معاناة المرأة في الجاهلية قبل بعثته، وأصلح الله الأرض بعد فسادها، فكل من سار على طريق فرعون سيهلك كما هلك فرعون، ولنا في فراعنة العصر وطغاته عبرة، فمنهم من هرب، ومنهم من هلك، وبقي هذا الدين ومَن تَمسَّك به، عزيزًا شامخًا، لا يضرُّه كيدُ الكائدين، ولا مكرُ الماكرين، قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [إبراهيم: 46-47].
نسأل الله أن يحمينا من ظلم الظالمين، وأن يُهلك أعداء الأُمَّة من المنافقين والزنادقة، وأن يجعلنا من أهل النعيم
انتهت القصة،
والحمد لله رب العالمين.