الإثنين 10 مارس 2025 01:53 صـ 9 رمضان 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    “البسملة” وطاقة التعلق بالله

    رابطة علماء أهل السنة

    إنْ كان هناك من الفضل ما يمكن أن نغبط عليه مجتمعاتنا في الماضي القريب، ومن الخير ما يمكن أن ننسبه فيما مضى من أيامنا للفلاح الساذج والعامل البسيط والعذراء الغافلة والعجوز المسترسلة؛ فإنّه هذه العبادة التي استقرت حتى صارت عادة: (البسملة)، لم يكن أحد يمدّ يده إلى شيء أو رجله نحو شيء أو بصره صوب شيء؛ حتى يغرد: “بسم الله الرحمن الرحيم”، كان الجميع يرددونها بتلقائية وعفوية دون تكلُّف بليد ولا غفلة مائعة، وإنّما بحضور عقل هادئ وقلب ساكن ونفس مفطورة على التعلق بالله؛ فهل لنا أن نصبو ونهفو إلى مجتمع يستعيد تلك الروح لتحلّ في الحياة المعاصرة فتخفف من غلواء المادية؟ وهل يمكننا ونحن نستقبل رمضان أن نبذل محاولة في هذا الاتجاه؟

    البسملة والسبع المثاني

    قد يكون صحيحًا ما ورد موقوفًا على ابن عباس من أنّ السبع الطوال من المثاني، التي تُثَنّى وتكرر فيها الموضوعات المتنوعة، وقد يكون صحيحًا أيضًا ما ورد عن بعض السلف من أنّ القرآن كله مثانٍ؛ على المعنى الآنف ذاتِهِ، أمّا “السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ” فلم تكن إلّا فاتحة الكتاب؛ لحديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد ابن المعلى الواردين في البخاريّ، فهي السبع المثاني، أي: الآيات السبع التي تُثَنَّى في الصلوات وتُكرر؛ فتتكرر وتدور معها على قلوب المؤمنين هدايات القرآن الرئيسية الكبرى، الجامعة لكل ما في القرآن العظيم من هدايات، أمّا آية {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فهي بلا خلاف بعض آية من سورة النمل: {إِنَّهُ ‌مِنْ ‌سُلَيْمانَ ‌وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، وهي على الراجح آية من الفاتحة، وعلى الأقلّ هي آية نزلت للفصل بين السور، وهي إلى ذلك تتصدر المصحف على الإطلاق؛ فهي -إذن- داخلة في جملة السبع المثاني والقرآن العظيم، ويروق لي قول من قال: إنّ الفاتحة نزلت كاملة بعد {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فجاءت: بسم الله الرحمن الرحيم.

    من المبنَى الرقيق إلى المعنَى العميق

    {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} باسم الله نبدأ التلاوة لكتاب الله، نبدأ متبركين باسم الله، مستعينين بالله متوكلين عليه متعلقين به، وهكذا باسم الله نبتدئ كلَّ أمر وكلَّ شأن، باسم الله وببركة الله وبمشيئة الله؛ لأنّه باسم الله وبركته وتوفيقه وتسديده يبدأ كل أمر ويتمّ كل شأن، وبغير اسم الله أو بدونه لا يتحقق للناس أيُّ أمر ولا يظفر الخلق بأيّ شأن، فَمَرَدُّ الأمور كلِّها إلى الله تعالى وحده، هذه هي الحقيقة الإيمانية الكبيرة التي تُرَبِّي الوجدان على التعلق الدائم بالله وحده، وإنّها والله لطاقة عظيمة، طاقة تتولد بصورة مباشرة من الإيمان بأنّ الأمر كلّه -كونًا وشرعًا- مردُّه إلى الله، إنّها طاقة التعلق الدائم بالله؛ لذلك يتربّى المسلم على أن يبتدئ كلّ أمر ذي بال بالبسملة.

    ومن وهج المعاني العميقة تنبثق الأشعة الدقيقة

    هذا الخطّ الأصيل من هدايات القرآن ينبع من الفاتحة، ويمتدّ على استقامته في القرآن، ليقرر باستفاضة البيان واستقامة البرهان أنّ الأمر مردُّهُ إلى الله، فباسم الله يقوم كل أمر، وبغير اسم الله أو بدونه لا قيام لأيّ أمر، كونيًّا كان أو شرعيًّا، ومِنْ ثَمَّ؛ فباسم الله يتبرك ويتعلّق كلّ قاصد لأمر من الأمور إن أراد توفيقًا وسدادًا، وباسم الله ترتبط حركة المسلم في حياته على الأرض، سواء في ميدان العبادة أو في ميدان الخلافة وعمارة الأرض، وباسم الله تتم نعمة التوفيق والسداد لكلّ من تعلق بالله وارتبط وجدانه باسم الله، تتم النعمة وتتحقق الآمال التي بدونها لا يعيش الإنسان.

    وللشعاع الدقيق ألوان طيف واسعة

    هذا الخط الذي ينطلق من هذه النقطة في أول الفاتحة يمتدّ في القرآن كالشعاع بألوان الطيف المختلفة، وأولها هذا السياق التعليميّ الذي يشتمل أولًا على تقرير الأصل الإيماني، وهو أنّ الله يُمضي الأمور لعباده باسمه وحوله وعنايته، ويشتمل ثانيًا على الحكم بالتجاوب الشعوريّ مع هذا الأصل الإيمانيّ، بأن يبدأ العبد كل أمر متبركًا باسم الله، وهذا أنموذج عمليٌّ ينقله القرآن الكريم عن بعض أسلاف أهل الإيمان والتوحيد: {وَقالَ ‌ارْكَبُوا ‌فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، فقد أمر نوحٌ الذين آمنوا معه أن يركبوا السفينة متبركين باسم الله، فقال لهم ما معناه: “اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها”؛ ذلك لأنّ الواقع أنّه: “باسم الله جريانها وإرساؤها، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته”؛ فلْتتعلقوا بالله وبحوله وقوته، وحده دون غيره.

    ولا فرق بين حال الضعف وحال القوة

    وهذا نبيّ الله سليمان، أيقن أنّ الأمور مهما عظمت تكون سهلة وهينة إذا تبركنا باسم الله؛ لأنّ الحقيقة الإيمانية تقرّر أنّ الأمورَ مردُّها إلى الله، وأنّ كل شأن إنّما هو بيد الله، وأنّ قيامَ كلِّ أمرٍ ومضاءَ كلِّ شأنٍ إنّما يكون باسم الله وبحوله ومشيئته، وإذا كان شأن الصدام الحضاري الكبير بين مملكة سليمان ومملكة سبأ كبيرا وخطيرا، وإذا كان الصراع بين رأس الإسلام ورأس الجاهلية من عظائم الأمور؛ فلْيمض إلى واجبه في خوض المعركة مع الباطل، وفي تفكيك بِنْيَةِ الجاهلية، وفي سَوْق الخلق إلى الحقّ بالدعوة والبيان ثم بالسيف والسنان، ليمض إلى ذلك هو ومن معه متبركين باسم الله، مفتتحين المسيرة باسم الله؛ فكان كتاب سليمان إلى الملكة على هذا النحو: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ ‌أَلَاّ ‌تَعْلُوا ‌عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.

    وكذلك كان شأن نبيّنا

    وهذا نبيُّنا، تنطلق مسيرته ومسيرة أمته التي ستمضي إلى يوم الدين، تنطلق متبركة باسم الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، اقرأ باسم ربك؛ فلسوف تخوض صراعًا هائلًا؛ فاقرأ وتلقَّ من ربّك الوحي الذي يحمل الهدى والبينات، ولتكن في ذلك كله متبركًا باسم الله، ولتبدأ مسيرتك متعلقًا بالله؛ لأنّه في الحقيقة لا نفاذ لأمر ولا مضاء لشأن إلا بمشيئة الله وحوله.

    البسملة طاقة التعلق السبع المثاني ترتيل

    مقالات